يعيش المثقفون في كهوفهم المنعزلة.. بعيدا عن ضجيج الواقع وصخب الجماهير.. في حين ينشغل أولئك المثقفون بالكتابة عن مشكلات وقضايا قديمة ومستهلكة تماما.. لكنهم في ذات الوقت يدعون غير ما يفعلون ويتخيلون أنفسهم فرسانا للتنوير ولمقاومة الظلام الدامس الذي يحيط بواقعنا.. لماذا إذا تزداد الفجوة بين المثقف التنويري والجماهير لدرجة أنها تصل إلى حد القطيعة، ولماذا يفشل المشروع التنويري في اكتساب ثقة الجماهير.. تعالوا نناقش هذه القضية مع عدد من المثقفين والمفكرين. يقول الروائي والكاتب ممدوح عدوان إن المثقفين هم أبناء شوارع لأن المثقف الحقيقي هو ابن الشعب ويجب أن يعبر عن همومه وتطلعاته . ويقول د . علي القيم مستشار وزير الثقافة السوري إن المثقف هو من يمتلك ثقافة شمولية ومتخصصة في مجال معين، فالمثقف عبر التاريخ كان واعياً لرسالته التي يمكن أن يعبر عن طموحاته وآماله لأنه الأقدر على معالجة الأمور وتشخيصها. ولكن ما هو مصيره الآن انه يعاني العوز بشكل كبير ولا يتمكن من طبع ما يكتبه. مشيراً إلى أن المثقف الحقيقي هو من يعبر عن هذه الرسالة وليس غيره خاصة من أشباه المثقفين ومدعي الثقافة . وهو الذي يعبر عن نبض الشارع بكل ما فيه من مشاكل ومن رؤى ومن طموح وآمال وهو ابن هذه البيئة وأتيح له من الإبداع لينوب عن هؤلاء والتكلم بلسانهم ولكن لعزوف الناس عن القراءة وانغماسهم في همومهم الحياتية اليومية وسعيهم لتحسين سبل معيشتهم حصل هذا الانقطاع القراءة والمطالعة والمثاقفة وحضور الندوات وبالتالي كل هذا على حساب الثقافة فالشخص الذي يعود إلى منزله متعباً لم يعد يقرأ بل يشاهد التلفزيون إلا أن هذه الوسيلة وسيلة تسطيح للثقافة او تسلية او تمضية وقت وليست للتثقيف بل يسعى إلى الإثارة والتشويق . مؤكداً قوله إننا عندما تركنا الكتاب تركنا الثقافة . وأضاف د. علي القيم لقد أصبحنا أمة لا تقرأ ، وقال من خلال مشاركتي في كثير من المؤتمرات والندوات ومؤتمرات منظمات اليونيسكو وايسيكو واليكسو تبين لي أن أفضل كاتب في الوطن العربي لا يطبع من كتبه خمسة آلاف نسخة وهذه الكمية تحتاج إلى أربع أو خمس سنوات حتى تنفد معنى ذلك إذا كان عدد سكان الوطن العربي 250 مليون نسمة فإن نصيب الفرد من الكتاب هو أقل من نسخة واحدة لكل مليون، بينما نصيب الفرد في أوروبا /37/ كتاباً لكل فرد ، فالكتاب مازال يحتل أولويات لديهم، بينما أصبحت الثقافة لدينا هامشية وبالتالي تراجع دور المثقف. وعلى الرغم من أن الجمهور من خلال هذا التحليل هو الذي يبتعد عن المثقف إلا أن المثقف الحقيقي يجب ألا يتعالى على المجتمع لأنه هو ابن المجتمع وهو أكثر إنسان يعاني من مشاكل المجتمع، ويحاول أن يكون قريباً منه. الجمهور ابتعد عن المثقف وقالت الأديبة ناديا خوست: المثقف الحقيقي لا يبتعد عن الجمهور لأنه جزء منه، مشيرة إلى أن الجمهور نفسه هو الذي ابتعد عن الثقافة لأنه اتجه إلى المال والتجارة والبحث عن المستقبل لذلك أصبحت الثقافة في مستوى أدنى مما كانت عليه سابقاً ليس على الساحة العربية فحسب بل أصبح هذا الأمر عالمياً أي لم يعد الشارع العربي فقط بعيداً عن الثقافة ولكن نجد ذلك حتى في فرنسا أي لم يعد الشارع الفرنسي يحركه شارع مثل ( بو للوار ) .وتخلص خوست إلى نتيجة وتقول إذاً هناك خلل وهناك انقطاع حقيقي بين المثقف والجمهور ويجب علينا أن نبحث هذه المسألة في إعادة المكانة الحقيقية للمثقفين وإعادة البيئة الروحية للإنسان، وإعادة الإنسان إلى حقل الثقافة ويتمثل بتأمين احتياجات الإنسان اليومية لكي يعود الجمهور إلى المنتديات الثقافية، مؤكدة على أن الجمهور وحده لا يتحمل كل المسؤولية، بل إنها تقع على كاهل المثقفين لأنهم هم الذين يستقطبون الجمهور. وأضافت خوست قائلة هذا الأمر أصبح يحمل الكتاب مسؤولية أكثر من ذي قبل وأن يبتعدوا عن الكتابة بلغة لا معنى لها، فمثلاً هناك ندوة أقامها اتحاد الكتاب العرب في دمشق حول النقد لم يحضرها سوى /12/ شخصا وهم المشاركون في الندوة فقط إذا كان حضور ندوة متخصصة بهذا الشكل فهل تريد أن يحضر جمهور مثل هذه الندوات؟. من جانبه قال الروائي هاني السعدي إن لم يكن هناك تواصل مابين المثقف والمتلقي فهذا مرده إلى أن المثقف لم يدخل إلى عمق المتلقي ليلقى الضوء على مكامنه فيخرج بعضها إلى السطح ويدفع بعضها الآخر. أما أن يقول المثقف أن المتلقي أغبى من أن يفهم : وأنا لن أنزل إلى مستواه، بينما المفترض أن يقال إن المثقف قاصر عن الوصول إلى ذهن المتلقي وكتاباته هامشية لم تصل الى ما يتمناه الجمهور أو إنه لا يحب التواصل معه.ويتساءل السعدي ماذا يحقق المثقف إن وجه خطاباً متعالياً عن فهم الناس وتفاعلهم به؟ إنه حتى لا يحقق ذاته لأن تحقيق الذات يأتي من تحقيق الاتصال مع الجمهور ، لا الاتصال مع الذات نفسها. فلوحة الرسام قد لا تلامس الذوق العام لكن عليها أن تقترب من العام : إلا في حالة نكران الآخرين . الثقافة هي المنتج الأسمى وترى الشاعرة .. ابتسام الصمادي أن الثقافة هي الحصيلة الأخيرة للتحركات الداخلية غير المنظورة لمجمل التيارات والأفكار التي تعيش في الضمير الساكن للمجتمعات البشرية وأعني بالساكن هنا الداخلي الذي ينضج المعطيات على نار هادئة فيبدو على المستوى المنظور حالة انقطاع بين المثقف والجمهور علماً بأن المسألة ليست انقطاعا ولا تعالياٍ من المثقف على العامة من الناس بل حالة أسميها ذوبانا بالمستهلك اليومي الذي يشبه المارد الكبير الذي يبتلع المثقف وغير المثقف ليتجشأ الاثنين معاً ويلفظهما بحالة من اللاتوازن فيبدو للناظر عدم التواصل والانقطاع، مضيفة إن الحقيقة هي هبوط إلى ما تحت خط الخبز والحاجات اليومية وانكفاء قسري إلى الداخل والأناني فينشأ للمثقف عالمه الخاص المصنوع من الزجاج الشفاف إذا لم أقل الهش، حتى إذا ما وقع بأيد تقدر ثمنه، تضعه في مكان غالٍ كمن يضع تحفة في خزانة مميزة، أما إذا وقع بأيدٍ جاهلة فإنه قابل للتهشيم على أبعد حدٍّ وللتهميش على أقرب حد. فالثقافة هي المنتوج الأسمى الذي يبقى في غربال التراب والذهب. وتتساءل الصمادي كيف نقبض على هذا الذهب ونخلصه من الشوائب ؟ وتجيب عن هذا التساؤل قائلة إن هذه هي الحالة التي تمر بها الثقافة من غربلة الماء والطين والمادة الغالية الثمن ليأتي بعد ذاك دور الناس الذين يشكلون ما يسمى بالمجتمع . إذاً بكلام آخر تأتي الثقافة من مجموعة الطبقات التراكمية التي حققها مجمل الفكر الجمعي للمجتمع الواحد أو لتلاقح المجتمعات عموماً وهو ما يسمى بالحضارة، فثقافة الناس هي حضارتهم بشكل أو بآخر وما هو حاصل الآن أن أحد أسباب الانقطاع هو هبوط العامة إلى مستوى كرة القدم فترفع المثقف كي لا يتدحرج رأسه بين الأرجل وانكفأ على نفسه لا لينشأ خطاباً سيُفهم مع الزمن بل ليكون هو نفسه الخطاب والزمن الضائع .