يعيش المثقفون في كهوفهم المنعزلة.. بعيدا عن ضجيج الواقع وصخب الجماهير.. في حين ينشغل أولئك المثقفون بالكتابة عن مشكلات وقضايا قديمة ومستهلكة تماما. لكنهم في نفس الوقت يدعون غير ما يفعلون ويتخيلون أنفسهم فرسانا للتنوير ولمقاومة الظلام الدامس الذي يحيط بواقعنا.. لماذا إذن تزداد الفجوة بين المثقف والجماهير لدرجة أنها تصل إلى حد القطيعة؟ ولماذا يفشل المشروع التنويري في اكتساب ثقة الجماهير تعالوا نناقش هذه القضية مع عدد من المثقفين والمفكرين. المثقف المزدوج في البداية يقول د. رفعت السعيد : لاشك في أن الفجوة تزداد بين المثقف التنويري وبين القاعدة العريضة من الجماهير والتي تمتلك بالفعل قوة تغير الواقع الذي نعيشه.. مشيراً إلى أن الجماهير مغيبة بفعل حصارها في دائرة البحث عن قوت يومها، وبعدها عن التفكير في أية حلول مستقبلية لأزمتها، كما أن هذه الجماهير فقدت ثقتها تماما في الأحزاب السياسية والمثقفين التابعين لها، وربما تكون فقدت الثقة في فكرة التغيير نفسها. ومن ناحية المثقف فهو شبه مهمش ولا يعطى أي فرصة للوصول إلى جماهيريته المفترضة ولا يستطيع التأثير فيها، لذلك يبدو وكأنه طائر صغير مربوط بخيط يتصرف فيه كيفما يشاء. ويضيف د. السعيد: وإذا كان اعترافنا بزيادة الفجوة بين المثقف والجماهير يوضح مدى إنتهازية السلطة وقهرها في التعامل مع المثقف، فإننا أيضا لا ننفي ازدواجية هذا المثقف في أحيان كثيرة وعدم قدرته على المواجهة الحقيقية..فلم يتعد كونه موظفا يتبع السلطة في نهاية أمره وهكذا كان أغلب من جاؤوا بعد رفاعة الطهطاوي، من طه حسين وحتى أساتذة الجامعة الحاليين.. فهو يعيش الإزدواجية التي يحملها داخله بين انتقاد السلطة والتبعية لها هكذا كان المثقف العربي على مدار تاريخه الطويل وربما يستمر لوقت أطول. المثقف لا يعرف دوره أما الناقد د. عبد المنعم تليمة فيقول : أعتقد أن سبب هذه الفجوة المتسعة بين المثقف التنويري وجمهوره تعود في المقام الأول إلى هذا المثقف، الذي لا يعي معنى التنوير ولا يستطيع تفعيل دوره. فهذا المثقف لا يقوم إلا (بتنوير) نفسه فحسب من خلال المعرفة الموسوعية التي يسعى إليها. وأضاف تليمة قوله: ليس غريبا أن نجد هؤلاء المثقفين التنويريين وقد انشغلوا بقضايا ومشكلات لا وجود لها على أرض الواقع، فهم يضعون إشكاليات قد عفى عليها الزمن وقد أثيرت في أواخر القرن ال 19 وأوائل القرن العشرين، ويشغلون أنفسهم بالنقد والتقييم لهذه المرحلة ومحاولة حل مشاكلها وهذا كله يعني أنهم أبعد ما يكونون عن الجمهور الواقعي الذي تتكدس فوقه الأزمات والمشكلات ولا يجد من يعبر عن قضاياه بشكل حقيقي.. لذلك ليس من المعقول أن نطالبه بقراءة كتب هؤلاء (التنويريين) أو حتى التعليق عليها. وأكد تليمة أن حركة التنوير تكاد تكون محافظة للغاية ووجودها هامشي في مجتمعاتنا الفقيرة بل والمعدمة وأنا لا أرفض الماضي والبحث في قضاياه، لكن أين الكتابات التي تخضع للواقع؟ وأين الدراسات المستقبلية؟ وأين التعبير الحقيقي عن الجماهير؟ الحل لدى الدولة والحل في وجهة نظري حتى يمكن التغلب على هذه الفجوة بين المثقف التنويري والجماهير أن تفك الدولة من قيودها على الحياة الثقافية وأن ترفع يدها عن الثقافة، فهي التي تمتلك مختلف وسائل الإعلام وتضع بها مثقفين تابعين لها، ولو لم تنه السلطة هذا الحصار على المفكرين والمثقفين فلن تغير الأوضاع والخاسر الوحيد هو الجمهور. تفاقم الأزمة بعد الانفتاح الاقتصادي لكن الناقدة فريدة النقاش لها رأي يختلف بعض الشيء عن سابقيها حيث ترى أن الفجوة لا تزداد بين المثقف التنويري والجماهير بفعل السلطة السياسية مباشرة، لكنه بفعل التيار الأصولي المحافظ والتقليدي.. وتقول لاشك في أن التنوير أصبح حقيقة واضحة في مجتمعاتنا منذ كتابات الطهطاوي وطه حسين وعلي عبد الرزاق وغيرهم حتى كتابات الأجيال الحالية من المفكرين والمبدعين لذا فإن التنوير قد أصبح تيارا أساسيا في الحياة الثقافية والفكرية للبلاد وله وجود فعال وقوي، لكنه ليس التيار الرئيسي الذي يمثله تيار الإسلام السياسي الذي يلتزم بالمحافظة والتقليدية، ومازال هذا التيار يتمتع بتأييد السلطات بشكل أو بأخر حتى وإن تصادمت معه في كثير من الأحيان، وكأن هناك مصالح وأهدافا مشتركة بينهما! لكن هذا كله لا يلغي وجود المثقف التنويري الفاعل الذي يسعى إلى إحداث التغيير الجذري في المجتمع.. لكنه غالبا ما يجد ميلا من الجماهير ناحية التيار الديني ويبدو ذلك شيئا منطقيا لأننا نعيش في أزمة حقيقية بدأت بشكل خاص بعد نكسة حزيران 1967 وتفاقمت مع الانفتاح الاقتصادي الذي أدى لوجود أزمة اجتماعية عميقة، فالفقراء يزدادون فقرا. والأغنياء يزدادون ثراء بالاضافة إلى القيود الشديدة على الديمقراطية، وكلها عوامل تجعل اللجوء إلى الصرح الديني المبسط أسهل بكثير. من ناحية أخرى توجد مسؤولية كبيرة على المثقفين أنفسهم، وأنا لا أستطيع تفسير هذه الصراعات الضارية التي تجري بينهم على قضايا مفتعلة وربما على علاقات ومواقف شخصية مشيرة إلى أن هناك صراعا عنيفا يدور بين المثقفين وأنفسهم وكأنهم في حرب مع إسرائيل.. مؤكدة أن المثقف جزء من المجتمع وما يحدث يمثل انعكاسا للأزمة العامة التي يمر بها. لكن يفترض من المثقف الحقيقي أن يتجاوزها بما يمتلكه من وعي يسمح له بالرؤية الثاقبة ووضع الحلول وتنفيذها. ما سيأتي هو بمثابة الأثير الذي لا يمكن القبض عليه!! لن تتغير أوضاعنا قبل فترة طويلة. هذا ما يقوله أستاذ التاريخ، د. عاصم الدسوقي الذي يؤكد أن الصلة تكاد تكون مقطوعة بين المثقفين والجماهير لأن فكرة التنوير في مجتمعاتنا ناقصة وغير مجدية، فهي لا تعني أكثر من الكتب والنظريات والمعرفة الموسوعية في حين ينقصها أهم عنصر وهو الفعل والنضال من أجل تحقيق التنوير، فهو في أوروبا على سبيل المثال لم يتحقق بعدة آلاف من الكتب فحسب لكنه تجاوز ذلك إلى صراع حقيقي وضحايا من المثقفين التنويرين ومن الشعوب. واستدرك الدسوقي قائلاً: إن الأمر لدينا يختلف تماما، مكتفياً بتوريد ما يردده البعض بأننا أقمنا عدة ندوات ومؤتمرات وأصدرنا آلاف الكتب ودعونا ضيوفا ومثقفين من أوروبا وأمريكا وغيرهما.. نكتفي بأن يكون لدينا مثقفون يحفظون النظريات لكنهم لا يفهمون عنها شيئا. وأرجع الدسوقي ما نعانيه من أزمة إلى المثقفين قائلاً: إنهم اكتفوا بتمثيل مظاهر الحياة الأوروبية وغيروا من اشكالهم وطريقة كلامهم وتعبيراتهم المستخدمة، في حين بقيت عقولهم كما هي وأفكارهم لم تتعد القيم الراسخة ولم تحاول تجاوزها... هكذا تزداد الفجوة بين المثقف التنويري ومجتمعه، او هكذا يبدو حاله في واقع المتغيرات التي تعصف بامواج العصر الحديث. ان مثقفي اليوم ليسوا قادرين على المواجهة فقط بل انهم فقدوا تماما القدرة على إيجاد حالة من حوار المواجهة، فالثقافة في عالمها وكونها الجديد جعلت المثقفين يتحولون الى سوبرمانات يطيرون عبر وسائل الاتصال الحديثة من عزلتهم الى كل مكان في العالم وبالتالي فإن هناك فضاء اخر يمارس فيه هذا المثقف حياته.. انه مكان الاثير، مكان اللامكان. وهذا ما يجعلنا نشعر مع مرور الوقت انه لن يكون هناك افضل مما كان وما سيأتي هو اثير لا يمكن القبض عليه. عبدالمنعم تليمة