حين يحضر اسم وليد الهويريني لدى خصومه، من المهتمين بالحراك الفكري المحلي، فلن تجد امتعاضاً كبيراً عليه مقارنة بأترابه. يلحظ المتابع له، انزعاجه من الطرح الذي يسمي نفسه بالعصراني أو التنويري، لتبني هذه الشريحة -كما يقول- مفاهيم وتصورات نبعت أصولها الفكرية في الفكر الغربي مع محاولة أسلمتها واستنباتها في المجتمع السعودي، وسعيها لتفكيك بنية المنهج السلفي. كان يكتب باسم مستعار بنفسٍ يصفه بعض المتابعين ب«الحياد» لكن قلمه مع الاسم الحقيقي غدا أكثر وضوحاً وربما حدة. يرى في حوار مع «الحياة» أن حصر الخلاف التنويري مع التيار الإسلامي في مسألة أولوية الإصلاح السياسي، «مغالطة تستهدف استقطاب الشرائح الشبابية، المتحمسة للشأن الحقوقي والإصلاحي وتصوير أنفسهم (التنويريون) «وكلاء حصريين للمشروع الإصلاحي». فيما يأتي نص الحوار. كنت تكتب باسم «عبدالرحيم التميمي» في مجلة العصر، والآن ودعت المستعار واكتفيت بالاسم الحقيقي في مجلة أخرى. المجلتان تمثلان طيفين فكريين مختلفين.. هل تغيرتَ أم أصبحت أكثر سلفية مع الاسم الحقيقي أم ماذا؟ - التغير ليس سلبياً في كل الأحوال، فمن التغير ما يكون إيجابياً ومنه ما يكون ضد ذلك، مع ذلك فلا أعتقد أن ثمة تغيراً جوهرياً طرأ خلال كتابتي بالاسم المستعار والاسم الحقيقي، ومما يبرهن على ذلك أن غالبية مقالاتي بالاسم المستعار نشرتها باسمي الصريح في كتاب «أوراق سلفية إصلاحية» ولاقت قبولاً ولله الحمد، فافتراض وجود تغير لدى بعض المتابعين بعد قراءة مقالات «عبدالرحيم التميمي» نشأ من اعتبار غلبة النبرة النقدية للحال الإسلامية في السعودية أيقونة كاشفة لتحول فكري حاد يستهدف الخروج من النسق السلفي العام، وهذا تصور غير دقيق، مبني على تجيير كل رؤية نقدية لتيار خرج من التيار الإسلامي العام، ولا يزال يعيش حالاً من الترحل الفكري منعته من بناء منظومة فكرية متماسكة. عمق الأزمة بين من يسمون التنويريين والمحافظين أين تكمن؟ هل هي في المبادئ والأصول أم الأولويات، أم التعاطي مع السياسي، أم النفوذ، أم في ماذا؟ - لدي تحفظ على استخدام مصطلح المحافظين لأن فيه استدعاء لدلالات صراع فكري في التاريخ الأوروبي لا يمكن تنزيله على الحال الإسلامية في السعودية، وأستأذنك بأن أعبر عنهم بالتيار الإسلامي العام وهو النموذج الأكثر حضوراً وتأثيراً في المجتمع السعودي. عمق الأزمة مع التنويريين يتمثل في تبنيهم لمفاهيم وتصورات نبعت أصولها الفكرية من الفكر الغربي مع محاولة أسلمتها واستنباتها في المجتمع السعودي عموماً، والأوساط العلمية الشرعية على وجه الخصوص، يتجلى هذا في الدعوة للحريات وفقاً للمنظور الليبرالي الذي يوفر حماية قانونية لكل الأفكار والدعوات المخالفة لمحكمات الشريعة الإسلامية ومسلماتها، ونقل محكمات الشريعة الإسلامية في المشروع الإصلاحي الإسلامي من دائرة «المبادئ فوق الدستورية» التي لا يجوز لمسلم بمقتضى إسلامه أن يرهن سيادتها بأهواء الناس وأمزجتهم إلى دائرة «التصويت الانتخابي» الذي يجعل للمسلم الحق القانوني لرفض تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، وقد بسطت الحديث عن معالم الخلاف مع التنويريين في كتاب صدر لي حديثاً بعنوان «تحولات الإسلاميين.. من لهيب سبتمبر إلى ربيع الثورات». على رغم القواسم المشتركة بين المحافظين والتنويريين أكثر مما بين (الليبراليين والتنويريين) أو (المحافظين والجاميين)، إلا أن الخلاف على أشده بينهم.. برأيك ما سر ذلك؟ - اشتداد الخلاف في الساحة الفكرية بين التنويريين والتيار الإسلامي العام أو من وصفتهم بالمحافظين يمكن عزوه لعاملين، الأول: التنويريون أعلنوا في بدايات ظهورهم أن نقد المنهج السلفي وتفكيك بُنيته الفكرية يُعد ركيزة رئيسية في حراكهم ورسالتهم، ولو قام باحث محايد بحصر كتاباتهم ومقالاتهم لوجد أن ما لا يقل عن 80 في المائة منها منصبّ فعلاً لنقد المنهج السلفي وإسقاط رموزه ومؤسساته، وبالتالي لا يمكن أن يكون رد الفعل من الطرف الآخر هو السكوت أو التغاضي، بل لا بد من الرد والتصدي لتيار جعل تفكيك البنية السلفية ركيزة في حراكه ونشاطه على شبكة الإنترنت. الثاني: قدم التنويريون أطروحات فكرية في قضايا الحريات والديموقراطية والموقف من الآخر متقاربة إلى حد كبير من الرؤية الليبرالية، ونسبوا هذه الأطروحات للإسلام، وبالتالي فالواجب الشرعي يقتضي من العلماء والدعاة بيان منافاة تلك الأطروحات للرؤية الإسلامية الرشيدة المنبثقة من مصادر التشريع الإسلامي وهي الكتاب والسنة. في تقديري أن محاولة البعض تصوير الخلاف حول أولوية الإصلاح السياسي، أو في الموقف من السياسي، فيه قدر كبير من المغالطة التي تستهدف استقطاب الشرائح الشبابية المتحمسة للشأن الحقوقي والإصلاحي وتصوير أنفسهم كوكلاء حصريين للمشروع الإصلاحي. الاهتمام بالقضايا الإصلاحية ضم أطيافاً متباينة أزالت كثيراً من الحواجز النفسية... كيف ترى هذا التقارب، وهل أثر على بعض المبادئ الإسلامية؟ - القضايا الإصلاحية التي تلبي حاجات المواطن في الصحة والتعليم والعمل والإسكان وإطلاق الحريات الشخصية في الفكر والممارسة وفقاً للمرجعية الإسلامية، كل هذه الحاجات ومثيلاتها تعد من صميم الشريعة الإسلامية التي ينبغي على مكونات الوطن الفكرية كافة الاجتماع عليها، والسعي في تحقيقها لأنها منسجمة مع مقتضيات النظام العام للدولة وتحقق حاجاتهم الملحة التي بها ينعمون في وطن يضع أقدامه في سباق الدول والأمم في المضمار الحضاري. ما يعكر على هذا كله استهلاك الجهود ونقلها من دائرة القضايا الإصلاحية المشتركة إلى قضايا تلُبس لبوس الإصلاح، وهي لا تعدو أن تكون أجندة خاصة بفصائل فكرية محدودة، ولا تشغل هموم المواطن، ويتجلى هذا غالباً في قضايا المرأة والموقف غير الموضوعي من أداء المؤسسات الدينية. أحد رموز الصحوة المحافظين رفض التشكيك في القضاء، ثم بعد فترة طارت الركبان بمن شكك في القضاء، من أحد الدعاة الرسميين.. كيف ترى هذا التباين؟ - ليس ثمة تباين فيما ظهر لي، فالعالم الشرعي الذي رفض التشكيك بالقضاء أراد قطع الطريق على محاولة توجه معين يسعى لتأليب الرأي العام على القضاء الشرعي بما يوفر أرضية خصبة لتدخل قد يخل بالهوية الشرعية للقضاء السعودي، ومن وصفته بأحد الدعاة الرسميين جاء كلامه كشاهد عيان ليؤكد أن تحذير وتخوف العالم الشرعي كان مبنياً على حقائق وليس على ظنون وتخرصات. بعد الضجة الإعلامية والمجتمعية حول الإساءة للرسول صلى الله عليه وسلم ثم لله .. هناك من رأى أن التيار الديني تعدى الإنكار إلى تصفية الحسابات مع خصومه.. هل لاحظت ذلك؟ - من المعلوم أنه لا يمكن ضبط ردود أفعال جميع المنتسبين للتيارات الدينية، ولكن العبرة دوماً بمواقف الرموز والقدوات في هذا التيار أو ذاك، وإذا جئنا لقضية الاعتداء على مقام النبي صلى الله عليه وسلم أو على مقام الرب جل وعلا فأنت لا تتحدث عن قضية تخص هذا التيار أو ذاك، بل تتحدث عن قضية مجتمع مسلم محافظ من الطبيعي أن يغضب ويطالب بمحاكمة المسيئين لمقدساته. اتهام التيار الإسلامي العام بأنه وظّف تلك القضايا في تصفية خصومه الفكريين نابع من فهم غير دقيق للموقف الشرعي والقانوني من المتعدين على الذات الإلهية أو جناب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فالمسيء للمقدسات يعد شرعاً ونظاماً قارف جريمة كبرى في المنظور الإسلامي، فالذي يدعو لحماية قانونية تمنع إحالة هؤلاء المسيئين للقضاء تحت دعوى «حرية الرأي»، أو يزعم أن النظام الإسلامي يبيح من الناحية القانونية وجود هذه الممارسات أو ما كان في حكمها، يشارك في تكاثر هذه الجرائم وازديادها، فالإنكار عليه وتحميله جزءاً من مسؤولية هذه الممارسات لا يمكن توصيفه بأنه سعي رخيص لتصفية حسابات جانبية للخصوم. الاستقلالية بين سلطة المسؤول وتأثير الجمهور.. كيف ترى واقع الدعاة والعلماء بين هذه وتلك؟ الدعاة والعلماء وغيرهم من نخب المجتمع من مفكرين ومثقفين ليسوا على نسق واحد في هذه المسألة، فيوجد طيف منهم يفتقد للاستقلالية فعلياً، فهو إما مرتهن لسلطة المسؤول أو يؤثّر أتباعه وجمهوره تأثيراً ظاهراً في صياغة مواقفه، ويعجبني هنا ما عنون به أحد الفضلاء مقالته مسلطاً الضوء على هذه الإشكالية بأن لسان حال هذا الرمز كمن يخاطب أتباعه قائلاً: «أنا قائدكم...فدلوني الطريق». كتبت مقالات عدة مدافعاً عن الموقف السلفي بشقه الحركي «الصحوي» تجاه الحريات، بعض المتابعين يرى في ذلك محاولة لقطع الطريق أمام من يسمون تنويريين... ما رأيك؟ - كتبت مدافعاً عن التاريخ الحافل بالجهود الإصلاحية التي بذلها التيار الإسلامي العام وما يسمى في أدبيات الإعلام المعاصر «بالصحوة»، لأني أعتقد أن هذا هو الموقف العلمي والأخلاقي الذي ينبغي أن يقفه أي باحث منصف ينشد الوصول للحقيقة تاريخاً وواقعاً، وهذا لا يعني بأي حال أن تلك الجهود الإصلاحية لم يتخلل مسيرتها أخطاء وعثرات بحاجة لتصحيح وتقويم، وأنها مرت بموجات تقدم وجموح وموجات تقهقر وتراجع، ولكن في النهاية تبقى تلك الجهود لدى الراصد الموضوعي كعلامة فارقة أحدثت طفرة إصلاحية نوعية في الحال السعودية، وتزداد المسؤولية عندما يرصد المراقب صخباً وصوتاً مرتفعاً في الساحة الفكرية يحول قلب المعادلة وتزوير التاريخ وتقديم الإسلاميين كإحدى دعائم منظومة الفساد في المجتمع. أخيراً كيف ترى مستقبل المحافظين والتنويريين .. هل سنشهد تناغماً واندمجاً أم فرقة واختلافاً في قادم الأيام؟ - المؤشرات الأولية تدفع - مع الأسف - باتجاه المزيد من التصعيد والاختلاف، ولكن هذا لا يعني ألا يبذل الناصحون والحريصون على تجاوز هذا الاحتقان والصراع نحو آفاق رحبة وأجواء صحية توظف هذه الجهود والطاقات فيما يعود بالخير والنفع لهذا الوطن، ومما يُحسب للإخوة التنويريين أن ثمة أجندة وأنشطة في حراكهم تتعلق بالإصلاح الحقوقي والإداري تستحق الإشادة والاحترام والتقدير. إن معطيات واقع المجتمع السعودي بتكوينه الثقافي والاجتماعي وتغلغل قيم الإسلام وأحكامه وفقاً للمنهج السلفي في عموم شرائحه منذ تأسيس هذا الكيان، توجب على الإخوة التنويريين قدراً من الواقعيّة في التعاطي مع ملف الإصلاح، ومن ذلك أن يتيقن التنويريون أن ثمة مساحات واسعة من الإصلاح يمكن أن يتفرغوا للقيام بها، أو يتعاونوا مع غيرهم لتفعليها من دون المساس بقضايا شرعية كبرى يشكل العبث بها في المجتمع مع تبعاته الشرعية هدراً للجهود والأوقات، وعرقلة لقاطرة الإصلاح، وحرقاً لعدالة قضية الإصلاح إزاء نخب شرعيّة ودوائر شعبيّة من دون دعمها فضلاً عن مخاصمتها، لا يمكن لعجلة التغيير أن تنطلق، ونحن نرى أن ثمة أسماء عدة لصحافيين ومثقفين غير محسوبين على التيار الإسلامي كثفت جهودها وكتاباتها في المجال التنموي والحقوقي للمجتمع، وتجد مقالاتهم وكتاباتهم كل ترحيب وتسويق من الإسلاميين، لأنها فعّلت دائرة المشتركات من دون المساس بالثوابت الشرعية.