لسنا مخيرين في وجود الآخر فهو حتمية اقتضتها حكمة الله تعالى في الخلق لتكون الحياة أكثر ثراءً، وليشحذ التنافس همم أبناء البشر، ويفجر طاقاتهم. {وَلَوء شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخءتَلِفِينَ}. والآخر هو المختلف عنا في أي جانب من الجوانب التي نهتم بها، فقد يكون آخر من حيث انتمائه الاجتماعي، لعرق أو قومية أو قبيلة. وقد تكون آخريته لجهة انتسابه الديني والثقافي، لمبدأ أو مذهب أو مدرسة فكرية. كما يكون اختلاف التوجه السياسي أو النهج السلوكي سبباً لتشكيل الآخرية. وهكذا يتحدد الآخر في مختلف دوائر اهتمامات الإنسان ومجالات تركيزه. والآخر قد يكون جزءاً من بيتنا العائلي وأسرتنا الصغيرة حيث قد يختلف الدين أو المذهب أو المسلك بين الزوجين وبين الوالدين والأولاد، وفيما بين الإخوة الأشقاء. وقد يكون جاراً لنا في السكن أو زميلاً لنا في العمل. وفي إطار أوسع قد يكون شريكاً لنا في الوطن والانتماء الحضاري. وعلى المستوى الدولي هناك جوار جغرافي وتشابك في المصالح خاصة في عالم اليوم الذي أصبح قرية كونية واحدة. مما يعني أن الآخر جزء من حياتنا كأفراد وشعوب ودول نتداخل معه، ونتأثر به ونؤثر فيه، إنه لا يمكن إلغاء الآخر وإلا الانفصال عنه كلياً. تلك هي الحقيقة التي لا مراء فيها ولا يمكن تجاهلها. بيد أن الامتحان الحقيقي أمام الإنسان هو مدى قدرته على تنظيم علاقته مع الآخر أخذاً وعطاءً، حتى لا يصبح التمايز سبباً للجفاء والعداء، بل دافعا للتنافس الإيجابي والتعاون والتكامل والإثراء. التعارف قاعدة أساس إن الخطوة الأولى، والقاعدة الأساس، لتنظيم علاقة مع الآخر هي التعارف. بأن يتعرف كل من الطرفين على الآخر، خاصة فيما يرتبط بزاوية التغاير والتمايز بينهما. ذلك أن الجهل وسوء الفهم غالباً ما يؤديان إلى التباعد حذراً، أو إلى النزاع والخصومة عداءً. يقول تعالى: {فَتَبَيَّنُوا أَنء تُصِيبُوا قَوءمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصءبِحُوا عَلَى مَا فَعَلءتُمء نَادِمِينَ}. وورد عن الإمام علي: ((الناس أعداء ما جهلوا)). إن المعرفة بالآخر تكشف لك نقاط قوته ومكامن ضعفه، فتمكنك من الاستفادة منه وإفادته، وتبرز لك مناطق الاشتراك ومواقع الاختلاف، بما يؤسس للتعاون وتنمية العلاقات. لذلك يؤكد القرآن الكريم على محورية التعارف بين فئات البشر، باعتباره قاعدة أساس للعلاقات فيما بينهم يقول تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقءنَاكُمء مِنء ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلءنَاكُمء شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكءرَمَكُمء عِنءدَ اللَّهِ أَتءقَاكُمء }. كما أن أول أمر بدأ به الوحي، حين نزل للمرة الأولى على رسول الله (صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم)، هو الأمر بالقراءة، حيث اتفق المسلمون على أن أول مانزل من القرآن هو قوله تعالى: (اقءرَأء بِاسءمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ). والقراءة المأمورة بها ليست مجرد عملية تتبع الكلمات والنطق بها، أو قراءتها بالنظر، بل هي أعمق من ذلك، إنها تعني عملية التفكير والفهم، وهو المعنى الذي أصبح متداولاً في الأوساط الفكرية، كما لخصت الباحثة (سيزا قاسم - 1995م) هذا المفهوم للقراءة بقولها: ((إنها خبرة محددة في إدراك شيء ملموس في العالم الخارجي، ومحاولة التعرف على مكوناته، وفهم هذه المكونات، وظيفتها ومعناها)) (الدكتور علي بن عبدالله حاجي/ واقع القراءة الحرة لدى الشباب، ص 96، مكتب التربية العربي لدول الخليج، الرياض 2003م) ولم يحدد الوحي لفعل (اقءرَأء) مفعولاً، مما يؤيد أن المقصود التوجيه لذات الممارسة والفعل، وأول ما يحتك به الإنسان ويحتاج لقراءته وفهمه، هو الوجود البشري الذي ينتسب إليه، فعليه أن يتأمل التمايزات الهامة بين فئات هذا الخلق، ليرى من خلال ذلك عظمة الله تعالى وحكمته، لتنظيم حياته بإرساء علاقات سليمة مع من حوله. وقراءة التمايزات بين أبناء البشر هي ما يشير إليها قوله تعالى: (وَمِنء آيَاتِهِ خَلءقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرءضِ وَاخءتِلاَفُ أَلءسِنَتِكُمء وَأَلءوَانِكُمء إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلءعَالِمِينَ) الآخر الجوّاني اصطلح الكتاب المحدثون على تقسيم الآخر إلى نوعين: الآخر الخارجي المنتمي إلى حضارة وكيان آخر. والآخر الداخلي أو الجوّاني وهو المختلف ضمن ذات الإطار الديني أو الوطني، حيث تعددت المدارس الفكرية والمذاهب الفقهية والتوجهات السياسية ضمن الأمة الإسلامية. وهنا تكون حساسية الاختلاف أشد لأنه في الدائرة الأقرب، والخطأ في التعاطي مع هذا الآخر خطير جداً، لماله من تأثير على تماسك المجتمع واستقراره. وبالتالي فإن القراءة الصحيحة لهذا الآخر الداخلي أكثر إلحاحاً وأشد ضرورة. هنا لا نواجه حالة الخمول التي نجدها في الاهتمام بالآخر الخارجي، بل نلاحظ حالة من الاستغراق والانشغال الكبير، بالفوارق والاختلافات بين الفرق والمذاهب. وقد تأسس علم جديد في وقت مبكر من تاريخ الأمة بعنوان علم الملل والنحل، و المذاهب والفرق.. كان انعكاساً للنزاعات والخلافات العاصفة التي عاشتها الأمة بين تياراتها الفكرية وطوائفها الدينية، وكان للمصالح السياسية في ذلك دور محوري. ولكل فرقة كتب في الدفاع عن نفسها والردّ على الفرق الأخرى، ويمكن القول إن الاهتمام بالخلافات المذهبية أخذ حيزاً كبيراً من الثقافة الإسلامية في الماضي والحاضر. لكن القسم الأعظم من هذه الكتابات والطروحات، يتسم بإصدار الأحكام وتقرير الإدانة للآخر،أكثر مما هو قراءة له.