هناك ظاهرة سلوكية لم تلق في علم النفس السلوكي الأهمية التي تستحقها كأداة تحليلية تفيد في فهم كثير من التصرفات الحادة وضبطها. هذه الظاهرة اصطلح على تسميتها التباين السلوكي Behavioral Contrast. يتبدى هذا التباين في السلوك عندما تُخفض وتيرة أو حدة سلوك في مكان أو وقت معين بالقمع أو بإيقاف الحافز تارة، وتارة أخرى تتاح له فرصة الحدوث في مكان أو وقت آخر بتقديم الحافز أو بوقف القمع، إذ في هذه الحالة الثانية تزداد وتيرة أو حدة السلوك إلى مستوى غير عادي يفوق ما يحدث لو لم يحصل التخفيض قبلا. الشواهد على هذه الظاهرة كثيرة. فالطفل الذي يعيش في بيت تزيد صرامته عن الحاجة التربوية قد يرتكب الكثير من التجاوزات خارج نطاقه. وإن هو في مرحلة الشباب فإنه قد ينخرط في الكثير من التصرفات الضارة من إضاعة الوقت إلى الإدمان. والفرد الذي " يسافر" خارج مجتمعه يمارس حريته بفظاظة تبعث على الاشمئزاز. وقد تحقق "المطبات" الاصطناعية عكس ما يهدف منها إذ كثيرا ما تبلغ السرعة درجة التهور بعدها. وقس على هذا الورثة الذين يبعثرون ما ورثوه من أموال لأن والدهم كان مقترا معهم في حياته. وأعتقد أن القارئ الفطن سيتعرف على أمثلة أخرى لهذه الظاهرة. أما على مستوى المجتمع فالتجاوزات قد تبلغ درجات أشد وأعظم. فما أن تنزاح السلطة المستبدة من على كاهل مجتمع ما حتى يهرع إلى الفوضى المخربة والمميتة، كما نشاهد في العراق. وتحدثنا كتب التاريخ عن تجاوزات مماثلة في ظروف مشابهة، مثلما حصل بعد الثورة الفرنسية. وعندما اضمحلت الاشتراكية في بعض البلدان تولدت محلها رأسمالية بشعة في فسادها مفرطة في أنانيتها. لربما تحقق الصرامة الخنوع أول الأمر ولكنها تفضي إلى الانفجار حالما تلوح بادرة انهيارها أو انحسارها. لذا يستحسن أن نتحكم بالتصرف الضار بالتمكين من البديل المفيد أو بالتسامح مع الأقل إضرارا، وليس بالتشدد. بهذا نربي أفرادا أسوياء ونكون مجتمعا سويا. وفي المقابل فإنه من الأفضل التدرج في الخروج من التسلط القائم حتى لا تقع الفوضى التي ستفضي حتما إلى التسلط مرة أخرى.