كوارث التجاوز يختفي بعضها عن العامة، والبعض الأخر يتفتت ويتوزع على الجسم الإداري، فيمرضه، ويعيق طموحاته وتطلعاته، بينما البعض يتجسد أحيانا في فاجعة ملموسة، يشهدها العالم أجمع، القريب والبعيد، مثلما حدث في فاجعة جدة المأسوية. والتجاوز لا يقتصر على مجتمعات أو دول معينة، ولكن نسبة انتشاره ومفاهيمه تختلف من مجتمع لأخر، ففي الدول المتقدمة تعتبر المحاباة (Favoritism) والمحسوبية (Nepotism) من أخطر أنواع التجاوز الإداري، بينما في بعض الدول النامية تعد المحسوبية والشللية، واقعا إداريا، لا يتم قمعه بصرامة، أو إدراك خطورته في ترهل الجسم الإداري، وتراجع الأداء الوطني، وانحسار مفهوم المواطنة. ما حدث في جدة فاجعة وطنية أليمة، والفواجع تحصل في كافة دول العالم، لكنها لا تمر مرور الكرام، دون تصحيح شامل، أو مراجعة قاسية، بعيدا عن حفلات المجاملات. ولكي نفهم ما حدث في جدة، يجب أن نبحث عن أسباب ذلك خارج مسرح الحدث، وتحديدا في المشهد الإداري، الذي أفرز المأساة التي تمثلت أمامنا، مجسدة جزءا من واقع مؤسساتنا الإدارية، كبد الوطن خسائر استراتيجية فادحة بالمعنى الاقتصادي، ومس رأس المال المعرفي السعودي، وصورة المملكة في الداخل والخارج، مما يعني أهمية استثمار الأمر الملكي كقاعدة انطلاق لمحاربة التجاوز وأهله، مثلما حاربنا الإرهاب وزمرته، لكيلا نغرق في المستنقع. التجاوز والإرهاب صنوان شر، يهددان مستقبل الوطن والأمة، التجاوز هو الإرهاب الناعم، الذي يضعضع مفاهيم الولاء والانتماء، ويشيع ثقافة التجاوز الإداري، التي تنمو من خلال الانتهازية واستغلال الظروف في تحقيق مصالح خاصة تضر بمصالح الوطن، ولاسيما مع غياب نماذج المساءلة والمحاسبة وإطلاق يد المسؤول في التصرف بشكل مطلق، وانخفاض حجم الأخطار المترتبة على سلوك المسؤول (لا مسؤولية دون محاسبة). كما أن غض النظر عن الشلليات الإدارية والمحسوبيات في الوظائف العامة، يعني عمليا استمراء البعض لممارسة سلوكيات مرفوضة، تفضي إلى اختيار العاملين في الإدارات التنفيذية الوسيطة والعليا على أسس لا تعتمد على أساس الكفاءة المهنية، وانغلاق الدوائر الإدارية على ذاتها، ما يدفع إلى تدهور منظومة القيم الإدارية، وتراجع الخبرات المهنية، وتدني مستويات المنظومة الإدارية ومخرجاتها، وإفساد العمل التنموي. ولكي نعيد الاعتبار الوطني لشهدائنا في جدة، من الأهمية بمكان إعلان حرب طويلة الأجل على التجاوز، في كافة قطاعات الوطن، من خلال تفعيل الهيئة الوطنية للنزاهة ومكافحة الفساد، وإصدار تشريعات وقوانين للمحاسبة والمساءلة والشفافية، وتفعيل دور المجتمع المدني في مكافحة التجاوز، من خلال وسائل الإعلام، والجمعيات الوطنية، والأخذ برؤى النخب الثقافية والفكرية، وكتاب الرأي في المجتمع، فليس كل من كتب يبحث عن مصلحة شخصية، بل هي مصلحة وطن، يستحق منا الكثير من الإخلاص والإيثار.. لكي نغير واقعنا يجب أن نغير أنفسنا. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 166 مسافة ثم الرسالة