إنه قدر هذه الأمة أن تُبتلى بفتن تتفنن بتفكيكها، وتمزق أوصالها، وتزيد تشرذمها أمام الآخرين. فكل حدث ينتاب الأمة يثير خلافا بين طوائف المجتمع العربي وأطيافه، هذا الخلاف الذي يشطر الناس ولا يعكس اختلافا في وجهات النظر فحسب بل يُنذر نُذُر شر وشرار تصب في معجم الحوار مفردات عدوانية شرسة تُدين وتَعزل، تطوي وتَحجُر، تخُوِّن وتُكفِّر فذاك خائن والآخر عميل، وهو وصولي متواطئ وآخر جبان، ومن يخالفني فهو عدوي حتى لو كان على بصيرة ورأيه متسربل بالفساد مهما اتكأ على عقلانية شواهد حاضرة أو تاريخية. الحدث الأكثر إثارة هذا العام بعد سقوط بغداد كان إلقاء القبض على طاغية العراق وهو واحد من جبابرة العصر الذين سيذكرهم التاريخ المعاصر في القرن العشرين في القوائم السود للطغاة الدكتاتوريين من أمثال تشاويسكو وميلوفيتش. الإثارة في الحدث لم تكن في ظرفه وملابساته ولا في الكيفية التي تحقق فيها فعليا إلقاء القبض على فرعون العراق وإنما الإثارة تفور وتصطخب نتيجة الانقسام الحاد في أثر الحدث على المواطن العربي وصدى ذلك في الإعلاميات التي أفصحت ردود فعلها عن كشف توجهاتها وفكرها المريض فبعضها لم يستح فأخذ يلعب على المشاهد لعبة سمجة تفتقر إلى المصداقية الإعلامية فتارة يصرحون بأن المقبوض عليه هو صدام ثم يشككون في الخبر فيعلن مراسلهم أن المقبوض عليه قد يكون الشبيه، فالخبر أصابهم بالذهول فقد كانوا يمنون النفس بعودة البطولات الأسطورية فمرارة الهزيمة النفسية أصابت الذهنية العربية بعد توالي الهزائم وتكاثر الانكسارات مما أفقدها التمييز والتبصر، لأن معاداة أمريكا وتحميلها مغبة ما آل إليه الحال العربي طغى على كل موقف لذا لا يعدم المنظرون من اقتناص أي شاردة، واستثمار أي واردة لإعلان الرفض ومخالفة أمريكا حتى لو كان في ذلك تضييع مصالحهم. كلنا محبط من مواقف أمريكا ضد مصالحنا العربية، ونعلن رفضنا لانحيازها الأعمى للعدو الأول للعروبة والإسلام إسرائيل، وتألمنا لسياساتها الظالمة التي تكيل بمكيالين، وتحفظنا بقوة بل استهجاننا لخططها السرية والمعلنة الهادفة إلى إعادة تشكيل العالم بعد أن تفردت بالسطوة العسكرية والسياسية، وما يعلن عنها تصريحا أو تلميحا من إشارات وشواهد ترمي إلى التدخل في شؤون الآخرين دون مراعاة للسيادة الوطنية وخصوصية المجتمعات الملتزمة بثوابتها، كل هذا يجب ألا يسحبنا إلى خلط الأوراق وتغييب العقل وطمس الحقائق فكيف يصبح صدام حسين -فجأة- بطلا أسطوريا ورمزا عربيا نتباكى عليه، ولا أستطيع فهم أن في إذلاله ذلا للعروبة والإسلام نتناسى قوله تعالى:( إِنَّ بَطءشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (إِنَّهُ هُوَ يُبءدِئُ وَيُعِيدُ( وهل استفحل بنا الداء العربي القديم المسمى (بيدي لا بيد عمرو). نعم للعرب صحوات عقلية تتنبه إلى أن: (على الباغي تدور الدوائر) وقد عززتها الثقافة الإسلامية بوعد لا يأتيه الباطل {وَأُمءلِي لَهُمء إِنَّ كَيءدِي مَتِينٌ} و{فَمَهِّلِ الءكَافِرِينَ أَمءهِلءهُمء رُوَيءدا}. متى تعيش أمتنا لحظة الصحو الصادقة، وتزن الأمور بميزان الواقع والحقيقة بعيدا عن المرض العاطفي المزمن في الجسد العربي، ألا يعلم المحتجون بادعاء أن صداما يمثل رمزا عربيا لا يصح أن نقبل إهانته أو إذلاله، ألا يعلم أولئك أنهم يسوغون كل صور البطش للطغاة من الجبابرة الذين ابتليت بهم أمتنا العربية ويزيدونهم عتوا وفجورا فهؤلاء لن يرضوا أن ينال الطغاة أذى من الشيطان حتى إن عجزت شعوبهم العربية البائسة من الانتصار لنفسها والانتقام لانسانيتها. أليست هذه عقلية مريضة بحاجة للاستشفاء؟