في إحدى المؤتمرات الثقافية العربية كانت هناك محاضرة بعنوان: دور الأديب العربي في المعركة ضد الصهيونية، لكاتب عربي معروف هو علي أحمد باكثير قبل وفاته، حاول أن يركَّز من خلالها على الأصالة العربية التي تمنع الأديب من التبعية الفكرية والسياسية والأدبية، فقد كتب باكثير - الذي أرقه ما تلقاه أمته من الصهاينة - خمس مسرحيات طويلة، عالج فيها قضية فلسطين ومشكلة اليهود قبل النكبة وبعدها، وكان ذلك إيماناً منه بأن المسرح هو واحد من الخنادق الثقافية التي بقيت ليعلق عليها آماله بعدما هزمت السياسة والاقتصاد في عالمنا العربي. إن تطور المسرح وتكامله فكرياً وجمالياً هو أقوى بشائر قيام الحضارات ودلائل نهوض الدويلات، إن المسرح لا ينشأ ولا يتطور إلا في حضارة ومجتمعٍ راقيين، وقد احتضنت الحضارات العريقة كالإغريقية والرومانية فكرة المسرح منذ قديم الزمان قبل ما يقارب الألفين والخمسمائة عام، وهناك دلائل وإثباتات كثيرة تشير إلى أن هيرو دوت نقل إلى الأدب اليوناني قصصاً مسرحية دينية كانت تقام لها حفلات في بر رعمسيس شرقي الدلتا، وهناك برديتان إحداهما بمتحف برلين والأخرى بالمتحف البريطاني دونت على كلتيهما عبارات وإشارات تتصل بالإخراج المسرحي تخص الحضارة المصرية القديمة، ولو افترضنا أن الحضارة الإغريقية لم تأخذ المسرح عن الشرق فلن ينكر أحد أن الثروة الأدبية في التمثيل المسرحي التي ننعم بها اليوم وتعزى إلى الخرافات والأساطير اليونانية والعقائد الدينية ليست إلا حصيلة مزيج من الثروة العلمية للحضارات التي سبقت الإغريق وعاصرتها مثل الحضارة المصرية والحيثية والبابلية والفينيقية والآشورية والهندية وغيرها، وذلك دليل على أن أثينا أو الحضارة الإغريقية فطنت إلى أن الممثل والشاعر والموسيقى والمفكر الذين ينطوون تحت المسرح جميعاً هم يجدون الشعب معهم على الطريق نفسه يتلقى نتائجهم حريصاً عليها لأنه بها يكون، ورغم الاختلاف حول فكرة التطهير في المسرح الإغريقي التي تقوم على فرضية أن المشاهد عندما يرى دراما ترتبط بحياته وهمومه وقضاياه وتنتقد السلبيات بشكل لاذع، فإنها تطهر نفسه من أي أحقاد أو مشاعر سلبية قد يتنامى داخلها ضد من يسيطرون على مقاليد الأمور، إلا أن هذه الفكرة أنتجت الكثير من النظريات والأفكار المفيدة التي قد تتكون في التضاد مع الفكرة نفسها. ورغم الكثير من الدلالات والشواهد التي تدل على أن المجتمع الأثني الإغريقي القديم تطور تطوراً داخلياً هائلاً بسبب قدرة المسرح - باعتباره فعالية جماهيرية مثله مثل كرة القدم في عصرنا الحالي - في تكوين الوعي الاجتماعي اللامحدود للشعب وهذا ما دفع (فردريك شيللر) إلى الجزم بأن المأساة الإغريقية ربت الشعب، إلا أنه مازال فريق من الباحثين يقرون بعدم وجود مسرح عربي أصلاً، فما دام التعريب والاقتباس فأين هي خصوصية الإبداع العربي الذي لم يتخط بعد مواقع التقليد والمحاكاة بل إنه صورة مشوهة من المسرح الغربي، بل إن البعض أصبح يقدم فكراً جاهزاً وغامضاً نتيجة لغموض وعيه وعدم وضوحه الفكري، فبدلاً من البحث عن مساعدة زائفة من مجتمع خارجي، ينبغي تأصيل هذا الفن ليصبح معبراً عن هموم الإنسان العربي المعاصر وتطلعاته ومشبعاً لحاجاته الجمالية، حيث أن تأكيد حضور ظاهرة المسرح في تراثنا الأدبي والشعبي و تأصيله من التراث والمعاصرة لإرساء قواعد هيكلية للمسرح العربي بشكل عام أمر في غاية الأهمية حتى ننتشل أنفسنا من الحضيض الذي نحن فيه. كما أن المواضيع التي نوقشت على خشبة المسرح في الأزمنة التي تلت الإغريق اختلفت جذرياً، فمع مسرحيات شكسبير بدأ النقد الاجتماعي للحياة، وفي أزمنة لاحقة تميز المسرح بمعالجة المشكلات الاجتماعية بسخرية مرة، كما أكدت الكثير من الأعمال المسرحية على رفض المظالم الاجتماعية، وتطور هذا إلى التأكيد على النهوض الذي بدأ مع بداية القرن الماضي. إن ما يجب علينا وضعه في قائمة البحث هو أن المسرح الإغريقي ومسارح الحضارات التي تتحكم في أمورنا الآن قد وصلت إلى ما هي فيه من قوة وثقافة وعلم من خلال الممارسة و التجريب، فلا يمكن أن يوجد مسرحا حقيقيا أو جمهوراً يمكن أن يتواصل مع الثقافة والمسرح دون وعي بماهية المسرح، ولو أخذنا على سبيل المثال احد أهم المجالات التي يؤثر فيها المسرح تأثيراً كبيراً وهي الإعلام، لوجدنا أن الإعلام العربي ليس إلا صورة مشوهة من الإعلام الغربي، وفي المقابل فالإعلام الأمريكي يغزو العالم ممثلاُ بهوليود وغيرها وهذا ما فطن إليه الفرنسيون وحاولوا أن ينافسوا تلك الهيمنة الأمريكية بشتى الطرق سواء بمهرجاناتهم العالمية أمثال (كان) السينمائي أو بمهرجان (أفي نون) المسرحي والذي تشارك فيه أكثر من أربعمائة فرقة مسرحية من شتى أنحاء العالم حيث تصبح مدينة (أفي نون) مدينة عاشقي المسرح، ورغم تلك المهرجانات العالمية وهناك غيرها الكثير إلا أن ذلك لم يساعدهم حتى الآن في الفوز بتلك الحرب، والتي قد تستمر طويلاً حيث أن دعامة هوليود الأساسية هي المادة الصهيونية، ورغماً عن ذلك إلا أن الثقافة الفرنسية تعد من أوسع الثقافات انتشارا إذا لم تكن الثانية. ومن هنا يتبين أن الفنان والمثقف العربي بحاجة إلى اكتشاف مسرحه الذي سيتميز عن المسارح الأخرى، حيث أن الحضارة الشرقية غنية بالحكمة والفلسفة والأسطورة - ولا ننسى هنا الثقافة الإسلامية النابعة من الشرق -، ولعل هذا هو ما دفع بانتونين آرتو وبيتر بروك إلى اللجوء للأساطير الشرقية، حيث أن المسرح الأوربي المعاصر مبتلى بهامشية الفكر والثقافة المستهلكة. *كاتب ومخرج مسرحي