لا يكف العراق عن مفاجأتنا وإدهاشنا، حتى في عيد الفطر. إذ حملت إلينا الأنباء مفاجأة لم تكن في الحسبان، فأهل السنة من العرب والأكراد والتركمان احتفلوا ببدء العيد يوم الاثنين. أما الشيعة من أنصار السيد الصدر فقد بدأ العيد عندهم يوم الثلاثاء، في حين أن أنصار آية الله علي السيستاني احتفلوا بالعيد يوم الأربعاء. ولأنه المرجع الشيعي الأعلى فان السيد علي خامنئي مرشد الجمهورية الإيرانية التزم بما ارتآه. وأعلن عطلة العيد في إيران في نفس اليوم الذي حدده. وهي ملامح ترسم لنا في مجملها صورة مسكونة بالإشارات والدلالات، تصلح مدخلاً لمحاولة قراءة المشهد العراقي المعقد والملتبس. (1) صحيح انه كان يحدث أحياناً في السابق أن يحتفل السنة والشيعة بعيد الفطر في يومين متتاليين، وكان الأمر يبدو طبيعياً في حينه، ويحمل باعتباره من تجليات الاختلاف في الاجتهاد والنظر الحاصلين في أمور أخرى. لكنه هذه المرة جاء محملاً بإيقاع مختلف من جهتين. من ناحية لان الحس الطائفي تعاظم بشدة في ظل الاحتلال وبسعي من قيادته. من ناحية ثانية لأنها المرة الأولى في تاريخ العراق التي تشهد فيها البلاد انقساماً معلناً داخل المرجعية الشيعية، تفوح منه رائحة التمايز بين العرب والعجم (الصدر أصوله عربية والسيستاني إيراني الأصل). هي مفاجأة كاشفة ان شئت الدقة، تستدعي ملف الشيعة وما أثير حوله من لغط وأساطير، (وهو ما سنتحدث عنه لاحقاً) - لكنها من ناحية ثانية تضعنا على عتبات فصل المفاجآت في المشهد العراقي، الذي اختلطت فيه الشائعات بالأكاذيب، على نحو يصعب افتراض البراءة فيه، خصوصاً اذا علمنا أن تلك الشائعات تظلم الماضي وتشوه الحاضر. وهو أمر سيئ في ذاته لا ريب، ولكن الأسوأ منه أن يصدقها البعض إلى الحد الذي يوهمهم بأن المستقبل يمكن أن ينبني عليها. لقد كان السقوط المهين للنظام البعثي بداية مسلسل المفاجآت المدهشة. ليس لان أحداً منا توقع أن ينتصر الجيش العراقي على الجحافل الأمريكية الغازية، ولكن لان أحداً لم يتوقع أن يكون السقوط بتلك السهولة الفاضحة. وكما سقط النظام بمنتهى السهولة، فان المقاومة ظهرت بمنتهى السرعة، وتلك بدورها مفاجأة لا ريب، استصحبت مفاجأة أخرى تمثلت في أن حس المقاومة تفوق على حس الانتقام. ذلك أننا اذا استثنينا حالات فردية تمت فيها تصفية بعض عناصر النظام السابق. فان تلك التصفيات لم تتحول إلى ظاهرة عامة، في حين تحول السلاح إلى صدر المحتل، الأمر الذي يعبر عن حس وطني ناضج وراق، قدم بمقتضاه جرح الوطن على جراح الناس، الذين استعلوا على مراراتهم وأحزانهم الدفينة. ولان المقاومة تحركت بسرعة مسلحة بذلك الوعي، فإنها لم تتعرض للقمع من جانب قوات الاحتلال فحسب، ولكنها تعرضت بشكل مواز لحملات قصف إعلامي وسياسي مكثف، كان سلاحها الأساسي هو الشائعات والأكاذيب. (2) الحرب النفسية ألحت - وما زالت - على أمرين، الأول أن العمليات الفدائية التي تتم في أنحاء العراق تقوم بأغلبها "فلول" النظام السابق، الذي يتطلع إلى استعادة سلطانه الذي فقده. والثانية أن متسللين عرباً عبروا من الحدود المجاورة يشاركون في القتال. مستفيدين من خبراتهم السابقة في أفغانستان وشيشينيا والبوسنة. والهدف من الإلحاح على النقطة الأولى هو تخويف الناس من "فزاعة" صدام حسين ونظامه، الذي يعلم الجميع انه ذهب إلى غير رجعة. أما إثارة النقطة الثانية فلها اهداف. من ناحية يراد بها إقناع الرأي العام الخارجي بأن العراقيين سعداء ومرتاحون لوجود الاحتلال، بينما الذين يتمردون عليه ويريدون النيل منه هم "المتسللون" الأجانب. من ناحية ثانية يريدون أن يلصقوا التهمة بعناصر تنظيم القاعدة، الذي صورته الدعايات وكأنه أخطبوط ضخم يضرب بأذرعه في أنحاء العالم ويهدد باستعادة نظام "طالبان" حيثما ذهب. في حوار على إحدى الفضائيات شاركت فيه، أثير موضوع المقاومة العراقية، فقال أحد أعضاء مجلس الحكم في بغداد ان "المخربين" الذين يثيرون القلاقل في أنحاء العراق هم خليط من فلول النظام السابق والمتسللين الذين جاءوا من الدول المجاورة. فقلت ان اختزال المقاومة في هذين الفريقين بمثابة إهانة بالغة للشعب العراقي، من حيث انه يستبعد كلياً أن يكون بين العراقيين من يتمتع بالحس الوطني وتدفعه نخوته وغيرته على كرامته وتراب وطنه إلى مقاومة الاحتلال الأمريكي. لقد فهمت قرار إدارة صحيفة أمريكية كبرى (لوس انجليس تايمز - 3/11) منع محرريها من الإشارة إلى "المقاومة" في العراق. ومطالبتهم باستخدام مفردات أخرى مثل المقاتلين او المتمردين (الحاكم الأمريكي للعراق يصفهم بأنهم مخربون وإرهابيون) - وهو قرار بررته الإدارة بحرصها على معنويات الرأي العام الأمريكي، حيث يرتبط المصطلح المراد استبعاده في أذهان الناس بذكريات الحرب العالمية الثانية وبطولات "المقاومة" ضد النازيين. في حين أن المطلوب أمريكيا في الوقت الراهن أن تحاصر المقاومة العراقية ولا تسبغ عليها أية أوصاف إيجابية - لكن ما ليس مفهوماً أو مبرراً أن يتبنى بعض العراقيين نفس الموقف الأمريكي، إلا اذا كان في الأمر حسابات ومصالح شخصية بحتة. صحيح أن أحداً لا يستطيع أن ينكر أن بعض عناصر النظام السابق تسعى إلى إقلاق راحة الاحتلال وإثارة الفوضى في البلاد، لإفشال محاولته السيطرة على الوضع الداخلي، واشك كثيراً في انهم يحلمون باستعادة سلطانهم بعد انكشاف بشاعات نظامهم. كما أن أحداً لا ينفي وجود متطوعين عرب تقاطروا على العراق في بداية الحرب. تعبيراً عن التضامن مع شعبه وسعياً إلى مواجهة الغزاة، منطلقين في ذلك من دوافع دينية او قومية. لكن القدر المتيقن أن هؤلاء وهؤلاء لا يشكلون الجسم الأساسي للمقاومة، وإنما يأتون - كما سنرى بعد قليل - في مرتبة متأخرة من حيث أهمية دورهم وتأثيره. على هامش هذه النقطة أشير إلى ملاحظتين هما: @ ان اغلب القيادات البعثية في النظام السابق - حتى الصف الثالث او الرابع على الأقل - قد خرجت من الساحة العراقية. فهي إما تعرضت للاعتقال او هربت من البلاد حاملة معها ما خف حمله وغلا ثمنه. وحين كنت في عمان قبل أسبوعين قيل لي ان 50 ألف شقة تم بيعها للعراقيين الذين وفدوا على العاصمة الأردنية خلال الأشهر الثمانية التي أعقبت الاحتلال، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع أسعار العقارات نتيجة زيادة الطلب عليها. ذلك أن "الفلول" المذكورة لم تكن مستعدة للمقاومة او الموت، وهي الاحرص على الحياة من أي شيء اخر. @ ان وجود المتطوعين العرب على محدودية أعدادهم ينبغي أن يوضع في إطاره الصحيح، فهؤلاء ليسوا إرهابيين ولا مرتزقة، ولا يستطيع أحد أن يدعي بأنهم مؤيدون للنظام السابق او مدفوعون من قبل المخابرات المركزية الأمريكية، كما أشيع عن الحالة الأفغانية. ولكن اذا جاز للأمريكيين أن يضموا إلى صفوفهم جنوداً من شذاذ الآفاق، من بولندا او أوكرانيا وسلوفاكيا وكرواتيا ودول أخرى، ويقدمون لهم اغراءات مالية لا تقاوم، فينبغي ألا نستكثر او نستنكر انضمام نفر من المتطوعين العرب إلى جانب إخوانهم في بلد عربي شقيق، وقد ذهبوا بإرادتهم للمشاركة في تحريره من الاحتلال، ساعين إلى الموت في سبيل ذلك، وغير عابئين بكل عرض الدنيا. (3) يقتضينا الإنصاف ونحن نتحدث عن المقاومة أن نعبر عن الامتنان للجنرال جاي جارنر أول حاكم أمريكي للعراق بعد الاحتلال، وللقادة العسكريين الأمريكيين، لأنهم قدموا خدمات طيبة للمقاومة تكفلت بتعزيز موقفها، وبزيادة الالتفاف من حولها. صحيح أن ذلك لم يخطر ببالهم، إلا أن ما فعلوه ينطبق عليه القول المأثور: يثاب المرء رغم انفه. ذلك انهم بسوء تقديرهم ونتيجة لجهلهم بالواقع العراقي، اسهموا في تأجيج المقاومة من حيث لا يحتسبون. لقد كان تسريح الجيش بمثابة هدية مجانية ثمينة قدمتها قيادة الاحتلال إلى المقاومة. ذلك أن تلك القيادة استهلت عملها بإعفاء مليون ونصف مليون ضابط وجندي من وظائفهم، الأمر الذي حولهم إلى جيش من العاطلين في غمضة عين، ولك أن تتصور مشاعر هؤلاء، الذين كان الضابط فيهم على الأقل من زمرة المحظوظين في ظل العهد السابق، وكيف انهم بعد "التسريح" اصبحوا جاهزين تماماً للانخراط في المقاومة. لم يقف "التسريح" عند تلك الحدود، ولكنه شمل أيضا كل أعضاء حزب البعث (اكثر من 2 مليون بينهم ألفان من أساتذة الجامعات) والعاملين في وزارة الإعلام، وفي جهاز الخدمة المدنية. ونسبة غير قليلة من هؤلاء لم يكونوا من كوادر الحزب، ولكنهم كانوا أعضاء فيه على الورق فقط، وقد انتموا إليه ليس لأسباب عقائدية، ولكن لمجرد انه "حزب الحكومة"، لكي يؤمنوا أنفسهم او لكي يتجنبوا شرورها. وقد لجأ الحاكم الأمريكي إلى تلك الخطوة بزعم استئصال الوجود البعثي، على غرار ما فعله الحلفاء في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، حين اتبعوا الأسلوب نفسه بهدف استئصال النازية. في غير مراعاة للفرق بين العراقوألمانيا، او الفرق بين حزب البعث (الذي لا يزال له حضوره في اكثر من قطر عربي) وبين النازية بعنصريتها واستعلائها، وكذلك الفرق بين أجواء منتصف القرن العشرين وأجواء بدايات القرن الواحد والعشرين. هذه التصرفات الخرقاء. التي يندمون عليها الآن، وفرت زاداً بشرياً غير محدود للمقاومة، وحولت الأغلبية الساحقة في المسرحين إلى منتسبين إليها، ان لم يكن من الناحية العملية فمن الناحية النفسية والوجدانية. الأمريكيون قدموا خدمة أخرى للمقاومة، للإسرائيليين فضل فيها لا ينكر. ذلك انه لم يعد سراً أن الحكومة الإسرائيلية التي كانت على تنسيق كامل مع الأمريكيين في الإعداد لعملية الغزو، أوفدوا إلى الولاياتالمتحدة بعضاً من ضباطهم العاملين في الأجهزة الأمنية، لكي ينقلوا إلى الجيش الأمريكي وهو يتأهب لاحتلال العراق خلاصة خبراتهم في التعامل مع الفلسطينيين بالأراضي المحتلة. ليس ذلك فحسب، وإنما زودوا الأمريكيين بجرافات من تلك التي تستخدم في هدم بيوت الفلسطينيين، وبنماذج للقيود البلاستيكية التي تكبل بها أيدي الفلسطينيين الموقوفين وراء ظهورهم، والأكياس البلاستيكية التي تغطي وجوههم وتخنق أنفاسهم. من جملة الدروس التي تعلمها الأمريكيون من الإسرائيليين، لجوؤهم إلى هدم بيوت المشتبهين الذي ادانته منظمة العفو الدولية (في 15/11) حين نددت بهدم 15 منزلاً في تكريت أثناء عملية عسكرية ، ولم يعط السكان سوى بضع دقائق لإخلاء منازلهم. من تلك الدروس أيضاً اللجوء إلى اعتقال أقارب المشتبه بهم، وهو ما تحدثت عنه صحيفة واشنطون تايمز (عدد 6/11)، التي ضربت لذلك مثلاً بقصة اقتحام الجنود الأمريكيين لمنزل في غرب بغداد أثناء الليل بحثاً عن شاب هارب يدعى ثامر. وحين لم يجدوه، ألقوا القبض على أمه وابن أخ لها وسيدة كانت بالمنزل، ونجا الأب من الاعتقال لأنه لم يكن بالمنزل بحكم عمله كحارس ليلي. وذكرت الصحيفة أن ذلك الأسلوب تكرر في اكثر من مكان، وان الهدف منه هو إجبار المطلوبين على تسليم أنفسهم كثمن لإطلاق سراح أهاليهم. حين تعلم الأمريكيون من الإسرائيليين أساليب قهر العراقيين وإذلالهم وأضافوا إليها جرأة غير معهودة على اقتحام المساجد، تضاعف غضب الآخرين، ولم يكونوا بحاجة إلى رجال صدام او إلى متسللين لكي يحفزوهم على المقاومة. وهو ما عبر عنه تقرير بثته وكالة رويترز (من الفلوجة) في 16/11 ذكر أن "الذين يطلقون القذائف الصاروخية على الأمريكيين هم مواطنون عاديون من سائقي سيارات الأجرة والعمال والمهنيين الذين يتأثرون لموت أقاربهم" - لان دماء القتلى في المجتمع العشائري وكذلك إهانة الشيوخ والنساء بوجه أخص، لا تجف ولا تمحى إلا اذا اخذ أهل العشيرة بثأرهم - (الجملة الأخيرة من عندي). (4) حين احتل الإنجليز بغداد في سنة 1917، وجه القائد البريطاني الجنرال مود رسالة إلى سكانها، قال فيها: لم ندخل بلادكم أعداء فاتحين، وإنما دخلناها محررين (من الحكم العثماني) - غير أن الذريعة لم تنطل على أحد، وظل العراقيون يقاومون المحتلين إلى أن قامت "ثورة العشرين"، التي تذكر كتب التاريخ أن 2500 قتيل وجريح من الجنود الإنجليز سقطوا فيها - وهو ما صدم سلطة الاحتلال وقتذاك، فاضطرت إلى تشكيل حكومة مؤقتة تمهد لحكم نيابي دستوري، ورشحت الأمير فيصل بن الحسين - الذي كان مقيماً في سوريا - لكي يكون ملكاً على البلاد، وتم لهم ذلك بعد استفتاء أجري في عام 1921. وكانت تلك هي الوسيلة الوحيدة التي امتصت بها غضب العراقيين، وأبقت في الوقت نفسه على الوجود البريطاني متستراً وراء النظام الجديد الذي صنعه على يديه. كأنك بهذه الأسطر تقرأ تاريخ الغزوة الأمريكية الحديثة، بدءاً من عبارة "لسنا فاتحين ولكننا محررون" - من صدام حسين ونظامه - وانتهاء باضطرار واشنطون تحت ضغط المقاومة إلى تشكيل مجلس الحكم والحكومة المؤقتة، والترتيب لنقل السلطة في صيف العام القادم (1904). غير أن العراقيين في وضع احسن هذه المرة. إذ فضلاً عن تراث المقاومة ونضج الوعي السياسي لديهم، فانهم اصبحوا افضل تسليحاً وتدريباً. وإذا كان النظام السابق قد اغرق البلاد بالسلاح حين أوشك على السقوط فضلاً عن أن الحروب التي خاضها وفرت قاعدة واسعة من المتدربين على القتال، إلا أننا ينبغي ألا نتجاهل حقيقة أن السلاح موجود أصلا في كل بيت، خصوصاً أن العشائر تعتبر أن اقتناءها للسلاح جزء من عزتها وكبريائها. من يقاوم الآن في العراق؟ سمعت في عمان حديثاً متواتراً عن حركة المقاومة الإسلامية الوطنية العراقية، وعن منظمات جهادية أخرى هناك، استلهمت تجربة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وحركة الجهاد الاسلامي في فلسطين وحزب الله في لبنان. وحين عدت إلى القاهرة وقعت على تقرير مفصل رسم خريطة للمقاومة العراقية (نشرته جريدة "العربي" في 16/11) للباحث والسياسي العراقي عبد الكريم العلوجي (من قيادات حركة القوميين العرب). وجدت فيه ثلاث مفاجآت، أولها كثرة عدد منظمات المقاومة، حيث أورد قائمة بأسماء 27 منظمة أعلنت عن نفسها في بيانات وزعت على الناس والصحف وألصقت على الجدران - (للعلم: الفضائيات العربية ممنوعة بأمر مجلس الحكم من الإشارة إلى تلك البيانات وإلا تعرضت مكاتبها في بغداد للإغلاق كما حدث مع قناتي الجزيرة والعربية ) - وثانيها أن كل فئات الشعب العراقي منخرطة بدرجات متفاوتة في خيار المقاومة. أما الأمر الثالث فهو أن المقاومة الإسلامية بمسمياتها المختلفة تتصدر القائمة، تتلوها القوى الوطنية والقومية التي تجيىء في المرتبة الثانية، في حين أن المجموعات المنسوبة إلى حزب البعث وفدائيي صدام والحرس الجمهوري احتلت المرتبة الثالثة.