ليس من الممكن فصل الخطاب الثقافي عن الخطاب العام اجتماعيا كان او اقتصاديا او سياسيا، اذ لابد لتسويق اية فكرة في المجالات السالفة الذكر من استثمار الخطاب الثقافي والتوسل به سبيلا الى فرضه او اقناع الاخرين به، وكان لابد بعد الحدث المنعطف الذي اسفر عن سقوط مدد لكثير من الطروحات التي روج لها زمنا ومن المراجعة الشاملة، وخصوصا لخطابنا الثقافي الذي اثبت ان ثمة خللا بنيويا في نسيجه العام. لم يكن ذلك الخطاب تأسيسيا باية حال من الاحوال، بل كان صدى باهتا تابعا غير متبوع، وعلى الرغم من قوة وصلابة مرجعية هذا الخطاب ممثلة في ثوابتنا الثقافية المرتبطة بثوابتنا الاساسية، فان الممارسات القولية شفاهيا وكتابيا كانت ذات سياق هش، بسبب بسيط هو ان كثيرا من مثقفينا كانوا ينطلقون من منطلقات نرجسية ذاتية وهمية انفعالية حينا، وانتهازية وصولية حينا آخر ذات بعد استعلائي مقيت، لذا تكثف خطابهم عن الخواء والزيف. ان الحقائق الصارمة اثبتت ان كثيرا من تحليلات المفكرين وتخرصات الاعلاميين ورؤى الشعراء وحذلقة المتحذلقين لم تكن تستند على بصيرة واعية مدركة، فالبصيرة معلومات والمعلومات كانت غائبة او مغيبة عن عمد وسبق اصرار كانت ثقافتنا اما معادلات فكرية جبرية يصعب ادراكها على المثقف العادي، او حوارات جدلية سفسطائية، او انحيازات الى فكر ما دون تمحيص جاد يستلزم العمل على تغييرها فهي راسخة مكرسة، او تغرق في اجتهادات المفكرين الذين يذهبون الى اقصى اليمين تارة، والى اقصى اليسار تارة اخرى دون وجهة محددة معلومة، بل ان بعضهم كان يغير موقعه من النقيض الى النقيض، ولولا الخشية من ان تكتظ هذه المقالة بالاسماء لحشدت عشرات الشواهد ومئات المواقف لادلل على ما عانت منه ثقافتنا في العقود الماضية من اضطراب وعبثية، حتى فكرنا الادبي كان اشتاتا غير مجتمعات من النظريات والمناهج فأنفقنا الكثير من الوقت وسودنا آلاف الصفحات في مناقشات بيزنطية حول الحداثة والغموض وحرية الابداع وما الى ذلك فتفرقت بنا السبل وتشعبت، وغفلنا عن نسج خطاب قوي رصين مدرك لطبيعة الواقع واشكالياته وسبل الخروج من مآزقه عبر رؤية جادة وان تعددت زواياها، اما تبديد الطاقة في تساؤلات حيرى حول طبيعة الادب وفيما اذا كان بحر ومغامرة لغوية او حاملا لرسالة اصلاحية والوقوف عند رؤى جدية صارمة متعنته فكان هدرا لا تحتمله الظروف. كانت فوضى الخطاب الثقافي - اذا - من اسباب السقوط الذي منيت به الساحة الثقافية وما آلت اليه من دور مهمش، فهلا اعدنا النظر في الاسباب والنتائج، وابحرنا الى مفاصل البنية التركيبية لسلوكنا الثقافي التجزيئي الفوضوي المشتت المضطرب الذي تسطح حتى اصبح - في كثير من الاحيان - خطابا اعلانيا شعاريا موظفا، جمع بعض الاحيان حتى تحول الى فلسفة عبثية تبرر الموت المجاني وتخفي الرؤية الانسانية العظيمة لثقافتنا الاسلامية التي تقوم على قواعد ثابتة من التسامح والرفق: ان الله يحب الرفق في الامر كله كما جاء في الأثر، فهلا وعينا الدرس.