تتباين أكثر فأكثر وجهات نظر المثقفين العرب حول الأوضاع في العراق وآفاق تطورها. ويمكن القول بشكل مجازي ان هناك بوادر انقسام لا تمس البديهيات المتفق عليها من الجميع مثل وجود احتلال أجنبي وضرورة الخلاص من هذا الاحتلال وبناء عراق جديد مستقل وديمقراطي. إن بوادر الانقسام تمس جوهر أمور جرى الالتفاف حولها من أكثرية المتفقين وأخذت كمسلمات عبر عدة عقود دون الدخول في تفاصيلها وأسسها النظرية والتطبيقية. يمكن القول وبدون مبالغة بأن الزلزال الذي حدث في العراق قد أحدث بالإضافة الى الخسائر في الأرواح والممتلكات شروخا عميقة وضرورية لتطور منظومة الفكر العربي السياسي والمعرفي والسلوكي اليومي. قبل أحداث العراق كان المثقفون العرب والمسلمون يتفقون على ضرورة الديمقراطية سواء كانت ديمقراطية أم شورى. أماالعروبة والدين فقد جرى التعاطي معا عبر (ثقافة سياسية) سائدة هي أقرب إلى الدعاية من أن تكون قضايا معرفية وسياسية وفلسفية خطيرة. لو اخذنا مجلس الحكم في العراق كمثل على تعامل بعض المثقفين مع قضية الديمقراطية المجلس يعترف بأنه مجلس مؤقت وأن دوره سينحصر في الاعداد لقيام حكومة مؤقتة هي الأخرى لحين صياغة دستور يحظى بموافقة استفتاء شعبي عام يقود بعدالموافقة عليه الى اجراء انتخابات تشريعية. سلطة الاحتلال موافقة ومساهمة في العمل في هذا الاتجاه. هل المجلس شرعي؟.. يتسائل بعض المثقفين. واذا سألت عن معنى الشرعية قيل لك هو أن يكون المجلس منتخبا واذا سألت هل الانتخابات ممكنة في ظل الظروف الحالية؟ يأتي الجواب من نفس المثقف بالنفي!!. أما اذا سألت عن المطلوب للمباشرة في بناء العراق الجديد فإن الجواب هو جلاء القوات المحتلة وترك شأن العراق للعراقيين.. إذا فأنت مع المقاومة؟ يأتي السؤال ليأتي الجواب محكم التمويه حتى ولو كانت بقايا فلول النظام الديكتاتوري مشاركة في هذه المقاومة. من الظلم أن تقود مفاهيم نبيلة وعميقة المعنى كالديمقراطية والعروبة والدين الى مثل هذه المتاهات، لكنها بقايا الفكر الشمولي المتخلف والأصولي المموه أمام أول تجربة عملية للانخراط في عملية بناء مجتمع ديمقراطي تعمل فيه الأحزاب والنقابات جنبا الى جنب مع باقي منظمات المجتمع المدني. الأمريكان لن يقوموا بذلك نيابة عن العراقيين، والعراقيون لن يكونوا أداة طيعة في يد من يريد المساس بحقوقهم في الوقت الذي يبدي فيه هؤلاء العراقيون استعدادهم للتعامل وفق المعايير الدولية في القيم والتجارة والسياسة. أليس من المثير للشفقة أن يجد الكثير من المثقفين أنفسهم في موقع الدفاع عن منظومة فكرية لم توار جثث رموزها بعد ليس فقط في العراق بل على امتداد بلدان العالم العربي؟ الفيدرالية في العراق ليست بعبع التقسيم والأكثرية حقيقة رموزها ليبراليون وشيوعيون والسنة موجودون ولا خوف على الديمقراطية من أنهم أقلية فالأكراد سنة والرموز تعددية المفاهيم والمشارب. في كل بلدان العالم يرتفع شعار الحوار بين المذاهب والديانات والأفكار والشيء الوارد هو أن أرضية غير مؤهلة للحوار لن تصلحها نوايا المستبدين مهما كانت عدالتهم. هل يجري الحوار حول مسائل أشبعت نقاشا على مدى أكثر من ستين عاما؟. نعم لأن هذه المسائل قد أشبعت كلاما ولم تناقش بشكل جدي في يوم من الأيام. لقد حان الوقت.. وقت إرجاع فكر وسلوك الاحتراب الى دائرة الحوار لبلورة موقف لا تخيفه بوادر الانقسام ضمن مبدأ وحدة وصراع الأضداد.