"لا تفكر اكثر مما ينبغي" كثيرا ما كنت اسمع هذه العبارة من زميل دراسة تايلندي ميال للمرح والمزاح، حيث يصادف احيانا ان يكلفنا الاستاذ ببحث مشترك، اذا ما طرحت اثناء المناقشة فكرة ما ولم تجد صدى في نفس الزميل بادر الى التعليق على ذلك بتلك العبارة. ومعنى ذلك ان الامور في غاية البساطة فلا تعقدها، ولا تكن "ذكيا" اكثر من اللازم، فتذهب بتفكيرك بعيدا، لانك قد تفترض افتراضات لا وجود لها الا في الخيال، وقد تكون النتائج مخيبة للآمال.ثم يأتي دوري فاسمعه العبارة اياها اذا ما طرح فكرة مشابهة لتلك التي طرحتها، ونضحك سوية على عبارته تلك. تقفز هذه العبارة الى الذاكرة كلما صادفت نحريرا يتذاكى في تحليل ما يدور حولنا من احداث في زمن كثر فيه التحليل والتعليل والتغفيل المؤسس على نظرية المؤامرة، وكثر فيه المحللون والمشخصون الذين يملأون الشاشات والصفحات على مدار الساعة، حيث تدور الاسطوانة المشروخة مرددة ان هنالك دائما (طبخة) تعد في هذا المطبخ الوهمي او ذاك، مقلبا يحاك من وراء الكواليس، او شبحا يتحرك هنا وهناك ويحرك الاحداث بعصاه السحرية كيفما يشاء، وهنالك دائما شيء لا يمكن رؤيته بالعين المجردة، ولا بد لاكتشافه من استخدام ميكروسكوب الذكاء او مجس النباهة والفطنة. وقد يشاهد ابو الكلام المشخصاتي الشاشة فيرى الدماء المراقة صلصة طماطم (كتشب) والاجساد المسجاة تماثيل من الشمع جلبت من متحف مدام تيسو بلندن، والتسجيلات الصوتية فبركة اعلامية، والمباني المدمرة خدعا سينمائية من اعمال هوليود، ويصبح المجرمون - تبعا لهذا المنطق المتذاكي - أبرياء والابرياء قتلة.. والضحك على الذقون حقيقة الحقائق، والاسود ابيض، والفقر رفاهية، وهكذا دواليك.... ولا تحسبن ذلك من علامات الحذر المطعم بالحكمة، او شاهدا على الذكاء والفطنة، على الطريقة التي يشير اليها ابو الطيب المتنبي في قوله: (اعيذها نظرات منك صادقة ان تحسب الشحم فيمن شحمه ورم)، ولا يذهبن بك الظن بعيدا فتعتقد ان هنالك علاقة بين مذهب التذاكي هذا ونظرية المعرفة او حفرياتها، فبين ابي الكلام المشخصاتي والمعرفة مثل ما بين هبنقة - بتشديد النون - والحكمة. لكنه شبيه بذلك الهبنقة الذي جعل في عنقه قلادة من ودع وعظام وخزف ليتأكد انه هو نفسه وليس احدا سواه، او حتى لا يضل نفسه حسب تعبيره. وكأنه يخشى ان يستولي احد على شخصيته فيحرمه من متعة الحماقة والغفلة. يقال ان القلادة قد حولت ذات ليلة من عنق هبنقة الى عنق اخيه فلما اصبح قال: يا اخي، انت انا، فمن انا؟ ارأيتم الى اي حد يصل (شك) الحمقى والمغفلين؟ وليس هنالك علاقة بين ابي الكلام المشخصاتي والسفسطائيين اليونانيين من اعضاء نادي مذهب الشك، ولا بفرقة اللا أدرية أو ابنة عمها فرقة العندية بكسر العين فهو لم يسمع بهذه الفرق على الاطلاق، كما لم يسمع بالشك الديكارتي لان وجوده ينتفي بمجرد ان يبدأ في التفكير، فهو والحال هذه نقيض ديكارت الذي يرى ان الفكر دليل على الوجود. يقال يكثر الشك حيث تقل المعرفة، ويقال ان الشك مقبول اذا كان اشبه بكلب يراقب ولا يعض! لكن كلما نبشت سيرة مثل هذ النموذج الهبنقي قفزت الى الذاكرة عبارة وردت في احدى روايات الكاتبة الجزائرية احلام مستغانمي تقول "ثمة نوعان من الأغبياء، اولئك الذين يشكون في كل شيء واولئك الذين لا يشكون في أي شيء!." غير ان المبالغة في الشك ليست حالة مرضية واحدة، ومادام الامر كذلك فكيف يمكن التمييز بين حالة واخرى؟ يمكن لنا ان نفترض مجموعة من العلل والاسباب التي تقود الى هذه الحالة. فقد تكون تلك الجعجعة المتذاكية والنزعة المتشككة المدججة بالريبة ناجمة عن رغبة في التميز والاختلاف عن الاخرين على طريقة "خالف تعرف"، وقد تكون ترديدا ببغائيا ساذجا لما يقوله الاخرون، وقد تكون تعويضا عن عقود من السبات والغفلة، على طريقة المثل القائل: "من تلدغه الحية يخاف من الحبل". وقد شبع هبنقة العصر والزمان لدغا على مر السنين، ثم تنبه اخيرا فاراد ان يعوض ما فات بالشك في كل ما هو آت، وهي شبيهة بيقظة ذلك الذي يقول انه قد ضرب ثلاثين (قلما) متتاليا على غفلة، وقد يرتبط هذا الشك بالحب او الكراهية. مع ان الكراهية شيء والبحث عن الحقيقة شيء آخر، فما كل ما يقوله الاصدقاء صحيحا، وما كل ما يقوله الخصوم بعيدا عن الحقيقة. وقد يكون شكا مفبركا للدفاع عن قناعة ما. ولدى صاحب هذه الحالة الاستعداد للشك او التشكيك في الحقائق، والتصديق بكل ما يتفق مع الاهواء والقناعات، فهو يكذب الكذبة ويصدقها ويريدنا ان نصدقها ونصفق لها. وهنا لابد لنا من العودة الى هبنقة المسكين لنعيد اليه اعتباره، لان من الاجحاف والظلم ان نقارنه بالنموذج السالف الذكر، فما كان هدف هبنقة من لبس القلادة الا التأكد انه هو نفسه وليس احدا سواه وذلك من قبيل الاحتياط، والاحتياط واجب بعد ان تشابهت علينا الاشخاص والاشياء، واختلط الحابل بالنابل. ومثل هذا الشك ناتج عن حسن نية، وصفاء سريرة ونقاء طوية، والدفاع عن طيب الذكر هبنقة سيقودنا حتما الى الدفاع عن كل زملائه من الحمقى والمغفلين القدامى، ولان الرجل على نياته كما يقال فقد كانت الاضرار الناتجة عن حمقه او تحامقه محدودة، اي انها لا تتعدى شخصه المتواضع، هذا اذا كان لحمقه اية اضرار او نتائج سلبية تذكر. اما حمق النموذج الاخر فشكل من اشكال التخابث والتذاكي الذي قد ينطلي على الحمقى والمغفلين.. وهو مضلل لانه يرتدي جلبات الثقافة احيانا، وله نتائج كارثية ومدمرة احيانا اخرى.