أسقط في يد إدارة الاحتلال الأميركية عندما تأكدت أنه لا يوجد لديها كرزاي عراقي يمكن أن تعتمد عليه ويحظى باحترام شعبي، وأن وجودها العسكري أصبح غير مرحب به في الشارع وبات أمن جنودها موضع خطر داهم ما غدا في حكم اليقين هو أن أميركا لم تكن قد هيأت خطة عمل واضحة ومتكاملة لإدارة العراق، ليس لأنها تفتقر إلى الإرث الكولونيالي وحسب، وإنما لأن حمى الاستعدادات العسكرية للإطاحة بنظام صدام واحتلال العراق قد شغلتها عن التفكير جدياً بسيناريوهات ما بعد الحرب، وهو ما انعكس بشكل مباشر على القرارات المضطربة وغير المدروسة التي اتخذتها بعد الاحتلال، مما أدى إلى تفاقم المشكلات الأمنية والحياتية بدلاً من الإسهام في حلها. ومثال ذلك تفكيك وزارات الإعلام والدفاع والداخلية والأجهزة الأمنية، وفصل كوادر البعث من الدوائر الرسمية ومطاردتهم، فوجدت شرائح واسعة من العراقيين نفسها هدفا للاحتلال وفي مواجهته دونما سبب منطقي. إضافة إلى ما أظهرته إدارة الاحتلال من اللامبالاة بمعالجة حالة الانفلات الأمني، وعدم الجدية في إعادة الإعمار، أو البدء بتأهيل البنى التحتية والمؤسسات الخدمية، وقد أدت هذه العوامل مجتمعة إلى تصاعد موجة الاحتجاجات الاجتماعية على سوء إدارة البلاد. ومما فاقم الأمور سوءا عاملان كان لهما أثرهما الهام في بلورة موقف جمعي إزاء إدارة الاحتلال، أولهما الفجوة الواسعة بين حجم التوقعات الكبيرة التي كان ينتظرها عدد من العراقيين بعد تغيير النظام السياسي وحقيقة ما أسفر عنه الاحتلال من تردي الأوضاع على نحو خطير، وثانيهما الشرك الذي صنعته المعارضة العراقية للإدارة الأميركية حينما قدمت لها نصائح مخادعة عن الترحيب الذي ستلقاه قواتها في العراق وبأن الاحتلال سيمضي دونما عوائق بمجرد إلقاء التطمينات بتحسين المستوى المعاشي. وقد غاب عن الجميع المزاج الشعبي العراقي بشقيه الديني والوطني الذي يأبى الاحتلال بالفطرة ولا يتوانى عن مواجهته عسكريا. في ظل هذه الأوضاع والتصورات تنامت المقاومة الوطنية وأخذت أبعادا أكثر تنظيما عما بدت عليه في الوهلة الأولى، وراحت أميركا تتكبد خسائر بشرية لا أظنها كانت في حسبانها، يضاف لها التكلفة العالية للاحتلال والتي بلغت أربعة مليارات دولار شهريا. بيد أن ما صب الزيت على نار المقاومة المستمرة هو هذا التعامل الفظ لقوات الاحتلال مع السكان دونما إظهار أدنى احترام للكرامة الوطنية أو التقاليد الاجتماعية. وهذا القول ينبغي أن لا يصرف الذهن إلى أن المقاومة هي رد فعل عضوي وفردي للاستفزازات الأميركية، وإنما أضفت عوامل مضافة لاستنفار المشاعر الشعبية في مواجهة الاحتلال. وقد أسقط في يد إدارة الاحتلال الأميركية عندما تأكدت أنه لا يوجد لديها كرزاي عراقي يمكن أن تعتمد عليه ويحظى باحترام شعبي، وأن وجودها العسكري أصبح غير مرحب به في الشارع وبات أمن جنودها موضع خطر داهم لا يستطيعون حتى تحديد وجهته. في ظل أوضاع معقدة كهذه توالت الانتقادات العراقية التي وجهت للإدارة بضرورة الإيفاء بوعودها التي لطالما ادعتها عن تسليم السلطة للعراقيين، أو على الأقل البدء بذلك جديا. وليس غريبا أن القوى السياسية الحليفة لأميركا كأحزاب الخارج باتت تشعر بحرج حقيقي إزاء الجماهير العراقية، وخصوصاً بعد سعي أميركا الحثيث لاستصدار قرار مجلس الأمن المرقم 1483 في 22 مارس/ آذار 2003 الذي شرّع الاحتلال بعدما فشلت سابقا بنيل شرعية الحرب. فهذه الأحزاب لم تعد قادرة على الدفاع عن وجهة نظرها القائلة بأن الوجود الأميركي هو تحرير للعراق من نظام مستبد، فقد أصبح لأميركا بموجب القرار السابق الحق في إدارة العراق كسلطة احتلال حتى وإن أشار ضمناً إلى تهيئة الأجواء لكي يأخذ العراقيون إدارة شؤون بلادهم، الأمر الذي بعث على اهتياج جماهيري ترافق وإياه نشوء عدد كبير من الأحزاب التي وجدت في فراغ السلطة والقهر السياسي مناخا جديدا للتعبير عن نفسها والمطالبة بالمشاركة في إدارة الحكم. وإزاء تصاعد المطالب العراقية بإنهاء الاحتلال والانتقادات الدولية المبررة بشأن أسباب الحرب، ولأن أميركا كانت تريد أن تقلص فرص تنامي المقاومة العراقية بانتزاع بعض مبرراتها، أعلن رئيس الإدارة الأميركية في العراق بول بريمر عن نيته تأسيس مجلس استشاري للحكم يضم الأحزاب الحليفة لأميركا عندما كانت في المعارضة، ثم وسعه إلى 12 ممثلا، وهو ما لم ترض عنه الأحزاب نفسها، لأنها اعتبرت ذلك دون السقف المتوقع لمشاركتها في إدارة السلطة بكثير، إذ ان دورها يقتصر على الاستشارة وحسب دون صلاحيات تذكر. وقد أفضت المساومات وضغط المقاومة الشعبية إلى اقتناع الإدارة الأميركية بتأسيس ما أسمته مجلس الحكم الانتقالي في العراق، ووسعت قاعدته لتضم أعضاء آخرين معلنة أنه سيحظى بصلاحيات أكبر مما كان مطروحاً في السابق، وبالفعل تم الإعلان عن مجلس الحكم مطلع يوليو/ تموز 2003، وهو يضم 25 حزبا وشخصية سياسية واجتماعية تم تعيينهم من قبل بريمر بعد التشاور مع الأحزاب النافذة. لكن أخطر ما في المجلس إشكالية هو أن اختيار أعضائه تم وفق اعتبارات قومية وطائفية محضة مما أثار استهجان العراقيين سواء للفكرة أو لنسبة التمثيل منه لكل مجموعة إثنية، فقد وزعت مقاعده على النحو الآتي: 13 مقعداً للشيعة و 5 فقط للسنة العرب، و5 للأكراد، ومقعد واحد لكل من المسيحيين والتركمان. وهكذا يبدو الخلل في تركيبة المجلس من الوهلة الأولى، فضلاً عن غياب إحصائيات دقيقة لكل مجموعة بحيث تكون نسبة تمثيلها متناسبة مع عددها، فالمؤكد أن العراقيين شعروا بأن اختيار الأعضاء على هذه الأسس إنما كان بقصد خلق مشكلة طائفية في بلد له حساسيته المفرطة إزاء هذا الموضوع. ويبدو لي أن الاعتبارات السياسية كانت وراء هذا التمثيل لا غير، فالإدارة الأميركية كانت تريد معاقبة السنة العرب بسبب المقاومة التي أبدوها فيما أصبح يسمى المثلث السني مثلما أرادت استمالة الشيعة لجانبها عندما منحتهم مقاعد لما هو أكثر من النصف، وبمعنى آخر قصدت منها أن تكون رشوة طائفية على حساب الوطنية. بيد أن ما فات أميركا حقا هو أن العراقيين سواء الشيعة أم السنة تساموا على هذه الجزئية ولم ينظروا إلى المزايا أو المساوئ بمعيار طائفي بحت، فالاعتراضات جاءت على أسس سياسية منطقية منها: أولا: أن اختيار مجلس الحكم تم بالتعيين لا بالانتخاب، وهو ما يجرح أصلا في وطنية المعينين من قبل قوة الاحتلال. ثانياً: أن صلاحيات المجلس محدودة للغاية ولا تشمل الشؤون السيادية. ثالثا: أن لبريمر حق النقض لأي قرار يتخذه المجلس ويعتقد أنه لا ينسجم والمصلحة الأميركية. رابعا: أن أعضاء المجلس لا يمكن أن يعتبروا ممثلين لهذه الطوائف, لأن معظمهم ينتمي لها بشكل رمزي. وخامسا: وهو الأهم أن المجلس يفتقر إلى التمثيل الحقيقي للحركات والقوى المؤثرة في الحياة السياسية والاجتماعية في العراق. عقب ذلك عقدت الكثير من القوى السياسية اجتماعات وندوات مشتركة أعلنت فيها رفضها لتركيبة المجلس وصلاحياته، مطالبة بإشراكها في تقرير شؤون العراق. ومن اللافت للنظر أن القيادات المدنية النافذة لكلا الطائفتين السنية والشيعية أعلنت رفضها للمجلس, وحثت العراقيين على عدم التعامل معه, فلجنة علماء الدين السنة وصفت المجلس بأنه "وليد مسخ"، وممثل الحوزة العلمية ذو التأييد الجماهيري الواسع السيد مقتدى الصدر وصف المجلس بأنه "غير شرعي", بل أعلن دون مواربة تحفظه على ممثلي الشيعة في المجلس، وذهب إلى أبعد من ذلك بكثير عندما أعلن عن تأسيس "جيش المهدي" بديلا عن الجيش الذي يزمع الاحتلال تشكيله في العراق وسماه "جيشا عبدا". ومن الغريب حقاً أن مجلس الحكم أخفق تماماً في نيل الرضا الشعبي منذ الجلسة الأولى له، بل جعل نفسه في مواجهة العراقيين حينما كان أول قرار يصدره هو اعتبار يوم احتلال بغداد في 9 أبريل/ نيسان 2003 عيدا وطنيا ومناسبة رسمية مما أثار المشاعر الوطنية وحرك التصريحات التنديدية على كل لسان، واعتبر هذا القرار وكأنه معيار لمدى تبعية المجلس للسياسة الأميركية. أما المقاومة العراقية فصرحت عبر بياناتها السياسية أنها ستجعل من أعضائه والمتعاونين معهم هدفا لها باعتبارهم "عملاء" حسب وصفهم، وهكذا فإن أميركا التي أرادت من إنشاء مجلس الحكم تخفيف غلواء الانتقادات العراقية، أضافت لأجندة الاستياء الشعبي بندا جديدا. ويبدو أن مجلس الحكم أراد أن يجد لنفسه شرعية دولية بعد أن افتقد الشرعية الوطنية، فطلب من جامعة الدول العربية الاعتراف بمجلس الحكم كمؤسسة شرعية بديلة عن النظام السابق، وهو ما لم يقابل بالرضا، حتى وإن أبدت دول عربية ارتياحاً حذراً لتشكيل المجلس واعتبرته خطوة أولية خاضعة للاختبار. إضافة إلى أن ثلاثة من أعضاء المجلس غادروا إلى نيويورك، وكانوا راغبين في أن يجري الاستماع إليهم في الأممالمتحدة كممثلين رسميين للشعب العراقي، وطالبوا بمنحهم مقعد العراق الذي شغر بعد سقوط نظام صدام، بيد أن الأممالمتحدة من جانبها لم تجد الفكرة مقبولة الآن، ونظرت إلى حضورهم لجلسة استماع مجلس الأمن بوصفهم أشخاصاً عراقيين ليس إلا، وهو الموقف نفسه الذي اتخذته الجامعة العربية، مما أثار حنق مجلس الحكم الذي كان يحبذ أن يجد لنفسه شرعية ما. وتجدر الإشارة إلى أن مجلس الحكم بصدد وضع لائحة لنظامه, كما سيعقد جلسة لتسمية وزراء من بين لائحة قدمها بريمر بأسماء الشخصيات العراقية التي تصلح للاستفزاز، وهذا يفصح عن مدى التدخل الأميركي في مجلس الحكم. ويخشى أن تكون تسمية الوزراء امتدادا لفلسفة المجلس في التركيبة الطائفية والقومية بعيداً عن الاعتبارات المهنية. كما أعلن المجلس أنه سيقوم باختيار لجنة تكون مهمتها صياغة الدستور الدائم للعراق الذي سيطرح فيما بعد للاستفتاء الشعبي. وقد راج منذ وقت مبكر أن الإدارة الأميركية سبق لها أن هيأت مجموعة خبراء من العراقيين في الخارج لوضع مسودة الدستور الذي يعتقد بأنه سيكون منسجماً مع المثل الأميركية. صفوة القول، إن ما أرادت أميركا منه أن يكون خطوة لإقناع العراقيين باستعدادها لتوليهم حكم بلادهم قد جاءت نتائجه على غير ما توقعت وخططت له، فالعراقيون الذين طالما تشوقوا للمشاركة السياسية لا يرضون أن يكون حصاد السنين المرة مجلس حكم لا يحكم.