رغم مضي قرنين من الزمن على الاحتكاك المعاصر مع الغرب ورغم تفجر مصطلح الحداثة في المجتمعات العربية المعاصرة وتضخم فكرة الهوية في عقول المثقفين العرب، إلا أن العمارة العربية لم تجد لها من يحتضنها ويحولها إلى فكر جماهيري وإلى مدرسة نقدية يمكن أن نطلق عليها مدرسة نقدية عربية في العمارة. هذا الغياب الذي لم يؤثر فقط على شكل المدينة العربية المتدهور دائماً، بل أنه أثر على الذاٍئقة العربية، فلم يعد هناك طلب للجمال، ولم يعد هناك من يبحث عن التميز.. خصوصاً على المستوى العام.. هذه الملامح الباهتة للعمارة في العالم العربي على المستوى الفكري والعملي تزداد مع تعاقب الزمن. وبدلاً من أن تتراكم التجارب الرائدة.. تراكمت الاخفاقات وأصبحت هي المسيطرة على ذهن المعماري العربي الناشئ.. فلم تسعفها مثلاً كل المحاولات التي قام بها بعض الرواد الأوائل أمثال حسن فتحي ومحمد مكيه لتشكيل صورة غائرة الجذور في المجتمع العربي.. نقول لم يستطع هؤلاء الرواد تغيير الصورة المتهالكة التي ظهرت عليها العمارة العربية منذ أن أبتعدت عن جذورها وتنازلت عن أصالتها.. والآن ونحن نتحدث عن جائزة منظمة المدن العربية التي اعلنت قبل أيام قليلة نثير أسئلة عدة عن مستقبل هذه العمارة وامكانية تصحيح صورتها. لا أحد ينكر ما للجوائز المعمارية من دور كبير في تشكيل الفكر العمراني.. فالجائزة تعني بشكل أو بآخر تتويج لفكر وعمل معماري متميز، مما يدفع الآخرين للتشبه بالفائزين وتقليدهم.. كما أنها تدفع النقاد لدراسة الأعمال الفائزة وتحليلها والبحث في أسباب فوزها. على أن الأمر اللافت للنظر في العالم العربي هو غياب كل هذه الآليات رغم أن هناك جائزة لمنظمة المدن العربية لها عقدان من الزمن. تأسست عام 1983م. ومنذ ذلك التاريخ وحتى الآن وزعت الجائزة سبع مرات حجبت فيها جائزة المعماري لثلاث دورات متتالية مما يعكس المأزق الذي تعيشه العمارة العربية المعاصرة. ربما نحن بحاجة إلى التحدث عن أسباب هذا التدهور الذي تعيشه العمارة في العالم العربي، فما الذي يمنعنا من صناعة معماريين متميزين.. أهي أزمة ثقة تعيشها المدن العربية ومسؤوليها مع المعماري العربي، أم هي مشكلة تعليمية وتقنية تجعلنا دائماً متأخرين عن الركب. أذكر في أحد اللقاءات التي جمعتني بالمعماري الأردني المعروف راسم بدران، أنه تحدث عن المعاناة الاقتصادية التي يعانيها المعماري العربي، فهو لا يأخذ أجرا مجزيا بل أجره عبارة عن ترضية مقارنة بالمعماري الغربي.. ربما يكون هذا هو أحد الأسباب والذي يؤكده المعماري السعودي المعروف علي الشعيبي الذي أبدى أكثر من مرة أن المشكلة تكمن في العائد الاقتصادي الذي يتلقاه المعماري العربي من عمله. ولكن لايمكن أن نعلق عجزنا على شماعة (الأجر المتدني) الذي يتلقاه المعماري العربي، فكثير من المعماريين المعروفين، وعلى رأسهم .ليكوربوزيه. كان دخله بسيطاً مقارنة بشهرته، على أنه قدم أعمالاً معمارية مازالت تعد من أهم التراث الإنساني المعاصر في مجال العمارة.إذن المشكلة أبعد من مسألة الأجر، وإن كانت مهمة، وأعقد من مشكلة الثقة في المعماري العربي.. التي غالباً ماتتجسد بوضوح، عندما يكون المشروع كبيراً ومعقداً.. بحجة أن المعماري العربي ليس له تجربة.. ولايملك المقدرة التقنية.. مع أن المعروف أن لكل شئ بداية، فالمعماري .نورمان فوستر. عندما أسندت له مهمة تصميم .شنغهاي بنك. لم يكن لديه تجربة في تصميم مثل تلك المباني والآن هو من أشهر المعماريين في العالم في تصميم المباني المتعددة الطوابق.. ربما نلقى ببعض اللوم على الثقة المفقودة هذه والتي انتقلت للمعماري العربي وافقدته الثقة بنفسه.. ومع ذلك فإن المشكلة تتجاوز هذه القضايا الاجرائية إلى مسألة التربية والتعليم التي يعاني العالم العربي من وجود خلل كبير فيها، فمناهجنا التعليمية لاتنتج مبدعين.. وهذا مانحتاج أن نفكر فيه في المستقبل. تجربة الجائزة 1986 2001م لعلنا نستطيع أن نرى في الجائزة الفرصة لتشكيل الوعي المعماري في المنطقة العربية.. ولعلنا نستطيع كذلك اثارة اهتمام المتخصصين في العالم العربي للبحث في مسألة التربية والتعليم التي نحتاج أن نبحث في اشكالياتها أكثر من أي وقت مضى. ومع ذلك فنحن لانرغب في تحميل الجائزة أكثر مما تحتمل ،ونضع عليها همومنا ومشاكلنا فالجائزة وان كانت تشير بوضوح إلى الفقر الابداعي الذي نعيشه، إلا أننا لايمكن أن ننظر إليها إلا على أنها آلية من الآليات التي يمكن من خلالها تحسين واقع العمارة العربية.. فلو حاولنا تقييم الجائزة في دوراتها السابقة سوف نجد أن الجائزة كانت تحاول أن تضع التجربة المعمارية المعاصرة في العالم العربي في صدارة الاهتمام ، ففي الدورة الأولى حصل المعماري العراقي محمد صالح مكية على جائزة المعماري.. ودون شك أن مكية يعد أحد رواد العمارة الكلاسيكية في العالم العربي وصنع مدرسة تصميمية وفكرية في المنطقة العربية خلال القرن العشرين.وفي عام 1988م فاز المعماري الدكتور عبد الباقي ابراهيم .رحمه الله. بالجائزة تقديراً لأعماله واسهاماته الفكرية. فالدكتور عبد الباقي ابراهيم حاول طوال حياته الاسهام فكرياً في تشكيل عمارة عربية أصيلة تستمد من الثقافة الإسلامية جذورها.. أما عام 1990م فقد حصل المعماري الأردني راسم بدران على الجائزة ،وبدران يرمز لجيل المعماريين الذين عبروا عن العمارة العربية في السبعينيات من القرن العشرين. كما أن عمارته تعتبر امتداداً للعمارة الكلاسيكية التي تطورت في النصف الأول من القرن العشرين.. ومع ذلك يعتبر بدران أحد أهم المعماريين الذين طوروا العمارة العربية المعاصرة.وفي العام 1993م قدمت جائزة تقديرية لكل من الدكتور صالح لمعي مصطفى والمعماري الأردني جعفر ابراهيم طوقان .. ولعل حصول الدكتور لمعي على جائزة تقديرية يبين أهمية المحافظة على التراث العمراني في المدينة العربية والذي يعد الدكتور لمعي أحد أهم المتخصصين فيه.. كما أن لجعفر طوقان أعمالا تعد مهمة في تاريخ العمارة العربية فمشروعه قرية الأطفال فاز بجائزة الأغا خان 2001م.. كما أن عمارته تعبر عن بساطة العمارة المحلية الأردنية وثراء الثقافة المعاصرة التي غالباً مايوظفها طوقان بسلاسة في عمارته.على أن اللافت للنظر هو حجب الجائزة للثلاث دورات الأخيرة عام 1996م وعام 1998م والدورة الحالية 2002م.. وبالتأكيد أن حجب جائزة المعماري لثلاث دورات متتالية يشير بوضوح إلى العقم الذي أصاب العمارة العربية فلا يوجد أسماء جديدة جديرة بأن تحظى بجائزة المعماري .. هذا يجعلنا نثير كثيرا من الأسئلة حول واقع العمارة العربية.لعل أهم تلك الأسئلة هو الذي يتعلق بالسبل الكفيلة بصناعة جيل من المعماريين العرب يحملون على عاتقهم رسالة العمارة كثقافة بصرية اجتماعية يمكن أن تعكس مستقبل الثقافة العربية. الجوائز المعمارية للدورة الحالية 2002م لانعلم فعلاً أن كانت الجائزة يمكن أن تقدم لعمارتنا المستقبلية الكثير.. ولكننا على يقين أن الجائزة بامكانها، لو احسن استغلالها، أن تكون أحد الروافد المهمة للارتقاء بعمارتنا العربية.. وحتى تقوم الجائزة بدورها دعونا نتحدث عن دورة الجائزة الأخيرة، وهي الدورة السابعة، والتي منها يمكن أن نتعرف كيف تنظر المدن الأعضاء للجائزة .. وكيف ينظر لها المعماريون العرب. فلقد تقدم لجائزة المهندس المعماري كل من. أ.د فاروق الجوهري مصري الجنسية، م. أحمد حسن محمد الرستماني اماراتي الجنسية، م. ابراهيم محمد الجيدة قطري، م. عدنان عبد العزيز الباقوني سوري الجنسية، م. عزت شطا سوري الجنسية- كعضو في هيئة تحكيم الجائزة في دورتها السابعة، تكَون لدي وللزملاء في الهيئة قناعة أن الجائزة بحاجة إلى تطوير، بل وإعادة هيكلة، حتى تكون ذات تأثير في المستقبل. لعل أهم الأسئلة التي طرحت هي ، لماذا لم يتقدم معماري عربي للجائزة يمكن أن تنطبق عليه معايير الجائزة ؟. فلثلاث دورات تحجب جائزة المعماري ، وهذا مؤشر خطير، يحتاج فعلاً أن ينظر له بعمق وأن يبحث في أسبابه .. في البداية كان التركيز على آلية التقديم التي تتطلب موافقة البلدية في المدينة التي ينتمي لها المعماري، وهذا يعني أن أي خلاف للمعماري مع البلدية، سيمنع هذا المعماري من المشاركة .. لذلك كان هناك اقتراح أن يتقدم المعماري، وحتى المشروع المعماري مباشرة دون الحاجة (لختم البلدية)، على أنني أرى شخصياً أن فكرة تجاوز البلدية قد تنطبق على جائزة المشروع المعماري وحتى على جائزة التراث العمراني، أما بالنسبة للمعماري فالأمر يحتاج إلى استحداث آلية جديدة، قد تكون مرتبطة بهيئة التحكيم، التي قد يطلب من أفرادها ترشيح أسماء لمعماريين عرب لهم أعمال كبيرة سواء تصميمية أو تعليمية وفكرية، ولهم تأثير على المجتمع المحلي الذي عاشوا فيه.. ومن ثم يتم اختيارأحد المعماريين بين فترة وأخرى . أي لايعني أن يكون هناك معماري في كل دورة. وبهذا يحظى المعماري الفائز بتقدير كبير عندما يفوز بالجائزة لأنه في هذه الحالة سيكون الاختيار عبر مرشحات عديدة من قبل متخصصين لهم باع طويل في مجال العمارة.. ويمكن استحداث جائزة للمعماريين الشباب، تشجيعاً لهم ، فإذا كنا نتطلع إلى وجود معماريين كبار لهم تأثير على حركة الفكر المعماري العالمي، لابد أن نهتم بالجيل الشاب من المعماريين وأن ندخلهم دائرة الضوء ونزيد من حدة المنافسة بينهم لكي يطوروا اتجاهات فكرية خاصة بهم.. والذي آراه مناسباً هو أن تقسم قيمة الجائزة التي مقدارها ثلاثون ألف دولار بين ثلاثة معماريين ناشئين، وبالتأكيد لو حدث هذا فعلاً فإن الجائزة سيكون لها تأثير كبير على مستقبل العمارة في العالم العربي وستكون جزءاً من ذاكرة المعماريين وتاريخهم.إذن الذي نتطلع إليه في جائزة منظمة المدن العربية هو أن تكون ذات ارتباط عملي ووجداني مع المعماريين العرب وهذا لن يحدث مالم تثبت الجائزة أنها وجدت لتدعيمهم ولتجعل منهم معماريين بمستويات عالمية.. وهذا قد يجعل القائمين على الجائزة يفكرون بجدية أكثر أن يكون لهم دور في صيانة مناهج تعليم المعماريين في الجامعات العربية، وذلك عن طريق استحداث بعض البرامج المشتركة بين مؤسسة الجامعة وأحد أو عدد من الجامعات العربية يكون هدف المؤسسة واضحا من هذه البرامج وهو دعم العمارة العربية المعاصرة الباهتة الملامح. أما الأمر الآخر هو الرسالة التي تحاول أن تقدمها الجائزة للمعماريين العرب، فكل المعايير التقييمية تحث على الارتباط بالتراث والتاريخ، فأصبحت الجائزة ذات طابع تراثي أكثر من تشجيع التجارب المعمارية المعاصرة في العالم العربي.. وهذا من وجهة نظري، له مخاطر مستقبلية لأن فيه تكبيلا للابداع وتشجيع مسار عمراني وفكري واحد ينم عن ضيق للأفق الذي يجب أن تتجاوزه الجائزة وأن تفتح أبوابها لكل الأفكار الجديدة.. ربما يحتاج هذا إلى إعادة صياغة لكل معايير التقييم التي تتبعها مؤسسةالجائزة وتنشرها في مطبوعاتها.الذي نتمناه من مؤسسة الجائزة كثير، وأنا على يقين من خلال معرفتي الشخصية بالقائمين على الجائزة، أن جائزة منظمة المدن العربية تتجه إلى الطريق الصحيح فالرغبة في التغيير والتصحيح موجودة.. والكوادر المؤهلة موجودة ولايبقى سوى العمل. قلة من اهتموا بجذورنا في العمارة