مع انتهاء الحرب على العراق عاد الجدل حول (خريطة الطريق) الاميركية إلى الأروقة السياسية الفلسطينية والإسرائيلية وحتى الدولية، بيد أن الجدل حولها إسرائيلياً كان مميزاً إلى حد كبير. ما لفت النظر في الجدل المذكور هو تلك النظرة الإسرائيلية للخارطة الاميركية، والتي تنطوي على اعتبارها استحقاقاً سياسياً يحمل الكثير من التنازلات التي ينبغي تجاوزها بتعديلات كثيرة، رغم أن واقع الحال يقول إننا بإزاء وثيقة أعدت بعناية على يد ليكوديين محترفين لا تحمل أي خير للطرف الفلسطيني، بقدر ما هي إعلان استسلام لموجة مقاومة هي الأروع في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، ليس من زاوية توحد الشارع الفلسطيني والعربي والإسلامي خلفها فحسب، بل من زاوية ما فعلته بالاحتلال مجتمعاً وقيادة ومؤسسات أيضاً. لقد حملت الوثيقة انتصاراً لشارون لم يتمكن من تحقيقه بسطوة قوة عاتية استخدمها خلال أكثر من عامين منذ مجيئه إلى السلطة، رغم وعوده المتواصلة بذلك منذ حملته الانتخابية الأولى ثم الثانية. إن السبب الرئيسي الكامن خلف هذه النظرة الإسرائيلية لخارطة الطريق يكمن في أحلام الحرب على العراق واستحقاقاتها على الوضع العربي كما بشر بها صهاينة البيت الأبيض وتجار النفط في الإدارة الاميركية، أما السبب الآخر فهو ذلك الشعور الطاغي لدى (شارون) بأن جماعته يحتلون الولاياتالمتحدة ويرسمون سياساتها على نحو هو الأكثر قوة ووضوحاً في تاريخها كله. وقد وصل الأمر بوزير الدفاع الأسبق (موشيه آرنس) حد القول إن الذين يأملون مع انتهاء الحرب على العراق أن تمارس اميركا ضغطاً على إسرائيل لإقناعها بالتنازل لعرفات سيصابون بخيبة أمل . والحال أن الرجل لم يتجاوز الحقيقة بقوله هذا، وقد ظهر ذلك من خلال خطاب كولن باول، المصنف (حمامة) داخل الإدارة، أمام رجال (الإيباك)، كما ظهر من خلال حملات الدعم لشارون من أعضاء مجلس الشيوخ والنواب الاميركي في مواجهة استحقاقات الخارطة المذكورة. لا يعني ذلك بالطبع أن (شارون) وجماعته لا يريدون التعامل مع الخارطة المذكورة، ذلك أنهم يدركون ما تنطوي عليه من مصلحة إسرائيلية كبيرة، لا سيما إذا أضيفت إليها التعديلات المطلوبة، غير أن المنطق الإسرائيلي يقول إنهم يرفضون أن يتم ذلك على نحو قد يوحي بأنه جاء بمثابة مكافأة للعرب على حيادهم أو تعاون بعضهم مع العدوان على العراق، وهو المنطق البريطاني الذي يتعرض لهجاء إسرائيلي على مختلف المستويات. (خارطة الطريق) إذن تبدو مقبولة، ولكن التعديلات مطلوبة أيضاً، وهي تعديلات تنطوي على بعد أمني بدرجة أساسية، ويقوم هذا البعد على ادخال السلطة في حالة من الصدام مع قوى المقاومة، إضافة إلى تهميش عرفات على نحو شبه كامل، ما يتيح لأنصار التفاوض ومناهضي المقاومة أن يضعوا يدهم على كل شيء. ولعل ذلك هو سر الإصرار على تعيين محمد دحلان مسؤولاً عن الأمن في الوزارة الجديدة. لكن ما هو أفق هذا المسار، وهل سيشكل نعياً لخيار المقاومة الفلسطينية وقواها، ونجاح بالمقابل، (لخارطة الطريق) وصولاً إلى تسوية مؤقتة ثم دائمة وفق رؤى (شارون) حول الدولة المحدودة التي لا تتجاوز حكماً ذاتياً على مساحة لا تتجاوز نصف الأراضي المحتلة عام 67، أي أكثر بقليل من 10% من مساحة فلسطين؟ من وجهة نظرنا فإن نجاح هذا المسار لا يبدو متاحاً، ذلك أن الانتصار الاميركي في العراق لن يكتمل على النحو الذي يأمله الإسرائيليون وصولاً إلى ترتيب أوضاع المنطقة وفق معادلة جديدة خاضعة للإملاءات الاميركية، والسبب في ذلك يكمن في أن الانتصار المذكور لن يلبث طويلاً حتى يتحول الى ورطة للاميركان باستمرار المقاومة، وفي هذه الحال لن تتحرك المقاومة العراقية فيما تسكت المقاومة الفلسطينية التي ألهمت الشارع العربي، والعراقي منه، روح التحدي، كما أن الذين يدعمون المقاومة العراقية لن يقبلوا تراجعها في المعركة الأهم في فلسطين. ولعل ذلك هو ما سرّع الحملة على سوريا، أملاً في مساهمتها في وقف (الإرهاب) ودفع اللعبة نحو نهايتها المطلوبة إسرائيلياً. كل ذلك يؤكد أن وثيقة (خريطة الطريق) ستنضم إلى وثائق أخرى مثل (زيني) و(تينت) والتي ذهبت جفاءً فيما لم يمكث في الأرض إلا منطق المقاومة بوصفه المسار الوحيد القادر على صناعة التحرير واستعادة الكرامة، لا سيما في أمة لم تعرف في تاريخها هذا القدر من الإقبال على المقاومة والشهادة. الوطن العمانية