العديد من الناس في العالم العربي يتساءلون ان كان حقا بامكان فرنسا ان تجعل الرئيس جورج بوش يتراجع عما صمم عليه من اجتياح العراق وازاحة الرئيس صدام حسين بالقوة, لا سيما انه يوجد اليوم الى جانب الحكومة الفرنسية المشاكسة للأمريكيين روسيا والصين.. ومن ثم, فان باريس لا تشعر بالعزلة, وان كانت بلا شك تشعر بالكثير من القلق حيال امكانياتها الخاصة ووعودها العرب. مثلا, يبدو ان آخر رسالة وجهها وزير الخارجية الفرنسي, السيد دي فيلبان, للوفد الوزاري الذي كلفته القمة العربية بمتابعة الأزمة, تقول: دعوا الرئيس العراقي يقوم (باجراء دراماتيكي مهم) حتى نتولى على اثر ذلك الدعوة لعقد قمة دولية لتجنيب الحرب ضد العراق. اما تفسير هذا (الاجراء الكبير) فليس واضحا. فالذين يقولون ان ما يطلبه الفرنسيون من القيادة العراقية هو (اعلان الاستعداد لكشف كل شيء عن الأسلحة المحظورة) يوحون بان باريس مازالت تتشكك في ان العراق يتلاعب بالمتفشين. وهو نفس الموقف الذي تعلنه الولاياتالمتحدة وبريطانيا. وحول هذه القضية, يلاحظ المعارضون لهذا التمشي انه عندما نتأمل موقف باريس, نرى ان دعوتها للاستمرار في التفتيش بدلا من اعلان الحرب, تقوم على (اجراء حسن نية) تجاه الحكومة العراقية. فلو كانت باريس تعتقد انه لا تزال لدى العراق أسلحة دمار شامل مخبأة, فهل كانت ستستميت الى هذا الحد في الدفاع عن الموقف العراقي؟ ويستمر هؤلاء في هذا الاتجاه, فيطالبون باريس بما هو أكثر من التهديد بالفيتو في مجلس الأمن, قائلين: نريد ان ينسحب نفس هذا الموقف المبدئي ايضا على القضية الفلسطينية. بعبارة أخرى, ان تقف فرنسا في وجه الحكومة الأمريكية التي لا تزال تعتبر الجنرال شارون رجل سلام يجدر بالعرب التعامل معه, وان تكشف باريس للعالم بأسره كل المضرة التي يمثلها شارون وحكومته التي يدعو بعض اعضائها الى اجراءات للتطهير العرقي في فلسطين.. وان تفضح باريس الاتجاهات الفاشية لدى هذه الحكومة الإسرائيلية التي تستغل الوضع الدولي لممارسة كل ألوان التعذيب والقتل والتنكيل بالفلسطينيين. والمنطلق هو انه اذا كانت فرنسا تجد في نفسها القدرة على معارضة الولاياتالمتحدة فيما يخص العراق, والمخاطرة بافساد العلاقات مع احد أهم حلفائها ان لم يكن أهمهم اطلاقا فانه من الطبيعي ان يتوقع العرب ان تنزل فرنسا بنفس هذا الثقل ايضا في مجلس الأمن للضغط على إسرائيل. اذ انه لا يعقل ان تدافع عن العراقيين وتتجاهل الفلسطينيين الذين يعيشون منذ نصف قرن تحت الاحتلال. ولكن ملاحظين آخرين يرون ان ميدان العلاقات الدولية ليس له شأن بالعواطف الطيبة وحسن النوايا. وقد لاحظت (واشنطن بوست) في افتتاحيتها يوم الأحد 9 آذار, ان ما يجري حاليا على الساحة الدولية, وتحديدا في مجلس الأمن, لم يعد حتى يتعلق بالعراق, أي ان المسألة العراقية هي مجرد سبب او ذريعة لصراع أهم بكثير, لا يتعلق بمصير العراق او بمصير المنطقة العربية, بقدر ما يتعلق بمصير النظام العالمي بأسره في ظل التفوق الأمريكي. القضية اليوم تتلخص في السؤال: هل يمكن للولايات المتحدة ان تتخذ قرارا بشن حرب دون عدوان سابق عليها ومع وجود مقاومة من طرف لاعبين مهمين, فقط لانها تتفوق على الآخرين جميعا في القوة؟ بايجاز: هل الأقوى هو الذي يسود؟ على هذا المستوى, لا يبدو احد من اللاعبين المهمين جاهلا لمعاني هذا الصراع وأبعاده ونتائجه المحتملة. ومن الوضح اننا اليوم نعيش مرحلة مخاض حاسمة على المستوى الدولي. وكما في صراع من هذا النوع فان المخفي أهم من المعلن وعلى المرء أن يعرف قراءة ما بين السطور وفهم ما لا يقال في اجتماعات مجلس الأمن, حتى يدرك ما هي الرهانات الحقيقية. وكما في كل صراع من هذا النوع هناك قوى تشد الى الخلف وهناك قوى تريد السعي الى الأمام. وعليك ان تعرف بذكائك وحدسك ما المحرك العميق لأي طرف, وما الهدف, وما المستقبل أيضا. وعود على بدء, اعتقد انه اذا نجحت باريس في مساعيها لصد جورج بوش عن الحرب, فآنذاك سيكون هناك معنى لمطالبتها بموقف أكثر جرأة تجاه الفلسطينيين. اما في حالة فشل المعارضين للحرب بالرغم من استعمالهم الفيتو اذا حدث فان النتائج ستكون لها أثر الزلزال لا في خريطة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وحسب, وانما أيضا في النظام العالمي ككل.