أصدرت وزارة الإعلام والثقافة (وكالة الوزارة للشؤون الثقافية) ثلاثة كتب متخصصة ضمن سلسلة ذاكرة المكان والتي بدأت ب (الطواف في ذاكرة مكة) و(المدينة تشرق من ثنيات الوداع) و(الرياض مدينة الصحراء والخزامى). ويعرف د. ناصر الحجيلان فكرة سلسلة ذاكرة المكان بالقول (تأتي هذه السلسة من الإصدارات التي تشرف عليها وكالة الوزارة للشؤون الثقافية لإكمال المشاريع الثقافية التي سبق إصدارها في سلاسل بلغت سبع عشرة سلسلة، تركز على الفنون والتراث والآداب واللغات والعادات والتجارب العالمية والمواقف الفردية والخبرات وعرضها للقارئ بأسلوب جذاب وبمنهج علمي يراعي الأصالة والإضافة المعرفية لكل مادة من المواد في هذه السلاسل. وتشهد بلادنا ولله الحمد نهضة عمرانية وحضارية شاملة جعلتنا ننتقل بسرعة من أماكن إلى أخرى حسب ما تمليه ظروف الحياة والعمل، فانتقلنا من القرى والأرياف إلى المدن والمحافظات ومن الأحياء والحارات والبيوت القديمة إلى الشوارع والميادين الواسعة والبيوت الحديثة، وهذه النقلة الحضارية صاحبتها ذاكرة احتفظت بالنشأة والنمو والتغير عبر التاريخ. وتتطلع الأجيال إلى التعرف على أنماط الحياة وسمات الأمكنة وعلاقة الإنسان بها، ومن هنا جاءت فكرة سلسلة (ذاكرة المكان) التي تسعى إلى استثمار الذاكرة في تقديم منجز ثقافي يفتح أمامنا المجال للتأمل والاستبصار والتعرف على التجارب والخبرات التي يصوغها المكان مع كل شخص. والواقع أن المكان من أكثر العناصر ألفة والتصاقا بالمعاني الإنسانية للمرء بسبب ارتباطنا معه بعلاقة السكن والعمل والعبادة والراحة. وقد احتفظ المكان بذكرياتنا كما تحتفظ ذاكرتنا به وتتداخل معه الحوادث التي نمر بها، فنجد أن المكان إذا حضر تداعت الذكريات بقوة ونقاء كما لو أنها تحدث الآن حتى لو كانت مسجلة من أمد بعيد. وبهذا، فإن المكان يحوي هوية خاصة له في ذاكرتنا وهو أحد أقوى تكامل أفكار الإنسان وذكرياته وأحلامه. ثم يضيف د. الحجيلان في مقدمته بالقول: ومن أجل الاستفادة من هذه المعطيات التي يزخر بها المكان من خلال تأثيره على الإنسان وتفاعل الإنسان معه، جاءت فكرة إصدار سلسلة (ذاكرة المكان) لكي تعرفنا على تفاصيل حياة المكان وتحولاته وتأثيره على تشكيل مخيلتنا ومساهمته في بناء معالم الكون في العقل وتكوين رؤية الإنسان للحياة، من خلال استكتاب عدد من الكتاب والمؤلفين في مجالات الشعر والقصة القصيرة والرواية والمسرح والصحافة والتشكيل والتمثيل وأدب الرحلات وكافة الفنون والآداب المختلفة، واستكتاب الحرفيين وعمد الأحياء السكنية الذين عايشوا المكان في تحولاته على مدى سنوات عديدة. كما تستعين كتب هذه السلسلة بالصور الفوتوغرافية المصاحبة التي قد تكشف ما لا تكشفه كلمات الكتّاب المشاركين، وقد تعبر أحيانا بشكل يوازي أو يفوق الوصف اللغوي. ويسعدنا أن ندشن سلسلة (ذاكرة المكان) في معرض الكتاب 1434ه-2013م بذاكرة ثلاث مدن هي: مكةالمكرمة، والمدينةالمنورة، والرياض، بمشاركة نخبة من الأدباء والكتّاب الذين رصدوا ذاكرة هذه المدن من خلال مراحل طفولتهم وشبابهم. (الطواف في ذاكرة مكة) يعد هذا الكتاب (الطواف في ذاكرة مكة) الكتاب الصادر الأول في السلسلة ونقرأ فيه تحت عنوان (طواف في ذاكرة المكان: مكة المقدسة) لأمل القثامي وتقول في مقطع منه: (يجاور هذا المسجد (مسجد الإجابة) منزل الأديب كما يسميه سكان حارتنا الشاعر حسين سرحان، ولأن بيته على طريق مدرستي الابتدائية كنت في طريق عودتي أراه جالسا على كرويتته أمام باب بيته – إن كان هو كما يقال لنا – ودائما ما كنت اسأل والدي عن سر وجومه وصمته، ولم الناس حولنا يبتعدون عنه، ولم هو يبتعد عنهم، ما الذي يخيفهم من هذا الأديب، وحين كبرت عرفت السبب وحدي). ويكتب صلاح القرشي تحت عنوان (الأماكن تتنفس) ويقول: (كان المشوار بين المدعى والملاوي يختصر السوق المكي في ذلك الوقت وهو الوقت الذي أدركته طفلا قبل أكثر من خمس وثلاثين سنة، لكنني الآن سأترك ذلك البدوي والثوب النادر الذي يبحث عنه وسأنطلق من الحرم الشريف متجها صعودا نحو المدعى والغزة مرورا بالملاوي ثم المعابدة إلى الخانسة الحارة التي ولدت وعشت بها سنوات الطفولة والشباب الأول). وتحت عنوان (وجوه السويقة.. رائحة التراب وتجليات المكان) يكتب محمد علي قدس: (لا زالت رائحة تراب أرض زقاق بيتنا القديم في مكة الطاهرة، عالقة في الذاكرة والفؤاد، حيث ولدت ونشأت في طفولتي المبكرة، رائحة تذكرني برائحة أخرى لها نكهة مختلفة وعبق له روحانيته وتجلياته، هي رائحة الحصى الصغير الذي كان يغطي المساحات الأكبر حول الكعبة والمطاف في المسجد الحرام، والتي تسمى «الحصوة»). ويختتم الكتاب بسرد لمحمود تراوري بعنوان (لم يبق إلا الطريق إليها) يقول فيها: (كثيرا ما تسلقت جبال مكة، سففت ترابها في نمرة والمحصب، تمرغت في (حصوة) الحرم، سربّت إلى نسوغ جسدي قطرات زمزمها، وعندما كبرت استحال كل ذلك إلى كلمات، وجمل تفاقمت وهمت على الورق قصصا ومقالات ورواية، وقت أن اتسعت حدقتا عيني فلم تبصرا إلا القليل مما تبقى من مكة). (المدينة تشرق من ثنيات الوداع) وتحت هذا العنوان يأتي الكتاب الثاني في سلسلة (ذاكرة المكان). ويفتتح الكتاب بسرد لأحمد إبراهيم البوق العنون ب (حوش الراعي شاهد في المسبحة الدينية) يقول فيها: (أينما يممت وجهك في المدينة تصافحك يد التاريخ أو تصفعك، لا فرق في نظر طفل في الخامسة، فحين يذهب رفقة أبيه إلى الحرم لصلاة المغرب أو العشاء ثم يعرج به في مدخل شارع العينية لتناول «الدندورمة» الآيسكريم التركي المطعم بالفستق من محل العم عثمان، فإن رحلة الصلاة هذه مصافحة حنونة ليد التاريخ). وتحت عنوان (النبوية المنورة: بعض من ذاكرة متعبة! بعض من زمن ضيق!) يكتب حسين عجيان العروي ويقول: (المدينةالمنورة بلدان، وشعوب في المدينة، عرفتها داخل السور، ومررت بالأحواش بعضها، وكونت تصورا عن تفاصيل الطين، وعن ملامح الحجر، وعن كنائن البشر، كنت أعرابيا غرا، وكان الذهول يشمخ برواشينه التركية، وتفاصيله العثمانية، متوجها إلى الحرم، أول مرة من مكان أبصرت عيناي فيه النور، يسمى «المصانع»، حيث حكم علينا بالترحيل، إذ ظهر المالك لأرض كنا نقيم فيها). فيما يكتب حسين علي حسين عن (المنازل القديمة في المدينة) فيقول: (أذكر أن للبيت «روشان» يطل على ساحة الحوش، ومن قاعدة «الروشان» تتدلى كما هي عادة أهل المدينة، إنائين أو أكثر من الفخار، تملأ يوميا بالماء من البئر الموجودة قريبا من الدار، وأحيانا يدنى على آنية الفخار للبخور ليكون ماؤها زكي الرائحة، هذه الآنية الفخارية تنقط على الدوام على رؤوس الجالسين أو السائرين تحتها، لا أحد يعير هذه النقط التفاتا). (النبش في ذاكرة الشخوص والمكان) وتحت هذا العنوان يكتب علي محمد الحسون ويقول: (أخذ طريقه إلى باب الرحمة قابله هواء بارد جعله يشعر بالحياة. سلم على البواب الذي تنبه من غفوته على صوته وضع حذاءه داخل أحد الرفوف. اخترق المسافة بين الباب والروضة تخطى كثيرين كانوا يغطون في قيلولة مريحة وقف أمام الشباك الشريف شيء كأنه الخفق يتزايد داخل صدره وبرودة تسري في كل جسمه رغم هذا الصهد في الخارج إصابته حالة من الوجد لم يقل شيئا انسحب في هدوء). وعن (المدينةالمنورة.. وبعض من الكلام) يكتب محمد الدبيسي فيقول: (على عرصة من عرصات «واديها المبارك» رأت عيناي نورها، وتفتح إدراكي على عوالمها الأولى، في تلك الضاحية المعروفة ب (سلطانة) الممتدة من (ثنية الوداع) إلى مجرى وادي العقيق، التي يتناقل المدنيون في موروثهم أن (سلطانة) هذه اسم سيدة تركية ثرية، وجاءت إلى المدينة في بدايات القرن الرابع عشر الهجري، وأنشأت بستانا وحفرت بئرا سبيلا للناس في هذا المكان، فعمر واشتهر اسمها علما على هذه المنطقة). (الرياض مدينة الصحراء والخزامى) ويجيء الكتاب الثالث في سلسلة (ذاكرة المكان) مشتملا على عدد من المواضيع تبدأ بها فاطمة الحسين التي تعنون سردها ب (كنا نسكن شارعا ينتهي بصحراء) وتقول: (كان خلف بيتنا جنوبا بمسافة قريبة إسطبلات الحرس الوطني.. أما شرقا فكانت حديقة الحيوان على شارع الأحساء، وكان الليل ينقل لنا زئير الأسود وصهيل الخيول قبل أن يزداد عدد المباني ويطغى هدير المكيفات على أصواتها. وككل الأشياء التي تأخذ أكبر من حجمها في عيني طفلة كان شارع جرير يبدو لي باتساع طريق الملك فهد الآن. وكانت مكتبة جرير دكانا صغيرا نشتري منه احتياجات المدرسة). ويكتب الزميل تركي بن إبراهيم الماضي تحت عنوان (نساء سكيرينه: خيزران يهتز في الريح!) ويقول: (ذهبت مع أخي لساحة الصفاة. قرأ الجندي بيان الداخلية وواقعة القتل. كان القاتل جالسا على ركبتيه ورأسه مغطى بقطعة قماش بيضاء، ومنحنٍ برأسه إلى الأرض. حمل السياف سيفه ثم هوى بها على رأس القاتل، ثم تدحرج الرأس إلى مسافة أمتار عن الجثة. فار الدم على أطراف الجثة، ثم أغمضت عيني، واختبأت خلف أخي هلعا مما رأيت. أتذكر أنني قضيت فترة طويلة أعاني فيها من كوابيس تراودني ليليا، مستعيدا مشهد القصاص، وأستيقظ فيها مفزوعا، وأهرب بعدها من غرفة نومي إلى غرفة والديّ، وأنا أبكي من شدة الخوف). (الفتى الذي سحرته أضواء «النيون») يكتب عبدالله الكعيد فيقول: (توقف في شارع السدرة يمج هواء وسط المدينة في رئتيه، ثم سار مدهوشا حتى استوقفه في منتصف شارع الثميري دكان صغير يصدح من داخله صوت طلال مداح. الفتى يعشق طلالا فاشترى بثلاثة ريالات شريط كاسيت من عشرة كانت كامل ما في مخباته. الوقت كان عصرا، ولا بد من العودة للخروج قبل الغروب. رأى وكأنه في حلم لوحات النيون المعلنة عن محال محسن وغتر العطار ورجب وسلسلة وغيرها).فيما يروي محمد عبدالرزاق القشعمي في (دخنة قبل ستين عاما) فيقول: (وقفت السيارة في نهاية شارع الثميري في زاوية الصفاة الشرقية والجنوبية بقرب باب كبير ذي ضلفتين يسمى (الصفاقات) وهو المؤدي جنوبا نحو حي (دخنة) حيث يسكن والدي وبقية طلبة العلم بمساكنهم المسماة (بيوت الإخوان) و(الرباط) ومسجد الشيخ محمد بن إبراهيم المفتي، حيث حلقات طلبة العلم مع معلميهم. نزلنا من السيارة واتجهنا جنوبا في شارع ضيق لا يتسع إلا للمشاة وللماشية، إذ لا يمكن أن تدخلها السيارة مهما صغرت. حمل خالي (بقشة) الملابس، وحملت والدتي صرة (الزوارة) من قرص (كليجا) أو حب القرع وغيره. ويكتب عبدالله بن عبدالرحمن العتيق عن (ثرثرة تحت المقيبرة) فيقول: (رأيت والدتي تتسلل إلى سطح المنزل، وعندما تبعتها رأيتها على السطح تتسمع بخشوع إلى أصوات الميكرفون أثناء خطبة وصلاة ابن إبراهيم القادم من الجامع، وطلبت منها أن ترفعني كي أتسلق جدار الطين، كنت أرى الرياض تحتي بجدرانها، لا أسمع أي صوت سوى الهواء يمر من أذني، وخطبة الجامع غير الواضحة. كانت الرياض صغيرة جدا، وكان والدي كل عام يستأجر منزلا غير الذي سبقه، وجميعها قرب مسجد المريقب والمقيبرة). (البديعة: نموذج شخصي عن الرياض) يكتب تحت هذا العنوان مازن اليحيا فيقول: (بعد عام ونيف على وصولنا إلى الرياض، تركنا شقتنا القريبة من مقبرة العود، وشارعي الثميري والوزير. كان الشارعان، عام 69م-70م من القرن الماضي، يغصان بألوان البشر. على ما أذكر الأوروبية الشقراء التي لا بد أن تلقاها تتمشى كلما أخذك أبواك لشراء حذاء، أو صندل، بتنورتها ال « ميني جوب» والشعر الأصفر الذهبي؟ ليست نفس المرأة، لكنها دوما ذات المرأة، كلما أخذك أبواك إلى الثميري والوزير. ويكتب يوسف المحيميد عن (عليشة: زهرة الأحياء القديمة) فيقول: (ماذا يعني أن يفصل شارع، من أكثر شوارع رياض السبعينات شهرة، هو شارع العصارات، بين حيين، حي عليشة غرب هذا الشارع، وحي أم سليم في الجانب الشرقي منه؟ وأن أسكن في منزل على بعد خطوات من هذا الشارع، فأتنفس هواء الشجر العالي في عليشة، وتحلق روحي من أبواب المنازل الواطئة، المنتشرة على الطريق المؤدي إلى ابتدائية الجاحظ قرب دوار أم سليم؟ هذه الأسئلة جعلتني أعيش ضمن هذا المثلث المتناقض، عليشة المنزل الإسمنتي الكبير، أم سليم المدرسة الابتدائية الأولى، والشميسي بيوت الأقارب.