تتلفت نحو الفضاء الموشح بالغمام.. تراقب الشمس الهاربة من الضجيج لتنشد الدفء خلف الأفق.. ترتفع نظراتها فوق أجنحة طائر مهاجر.. لتغط معه على شراع يعبر قلبها.. تجاه افكار مازالت حية في رأسها منذ زمن بعيد.. كلما حدقت في ذلك الطائر تعود الى ايام طوتها الذاكرة بين ثناياها.. حين كان ابنها الوحيد مرتميا بين احضانها يبكي اباه الذي سقط شهيدا امام عينيه، على ارض اثقلتها الجراح والدماء.. كانت تحاول ان تهدىء من روعه.. رغم الآلام التي راحت تمزق كيانها.. تبكي بصمت موجع أحال قلبها النابض بالدم الى قلب ينبض بالآهات والاحزان في زمن غادره الفرح وبدت الاشياء مملة.. النجوم تاهت في سماء القدس الحزينة.. وبدا القمر أكثر شحوبا.. لم تبق سوى سويعات ويطلع الفجر.. وها هو صغيرها يستسلم للنعاس الذي راح يداعب أجفانها أيضا، إرتمت قربه وراحت في سبات عميق.. في ساعة مبكرة من الصباح.. استيقظت وابنها مفزوعين إثر طرق شديد على الباب .. هبت مسرعة لتفتحه..وما إن فعلت حتى اندفع جنود العدو الى الداخل.. واخذوا يدوسون ويكسرون كل ما يعترض طريقهم.. هرعت الى ابنها الذي امتلأ قلبه الصغير رعبا وخوفا وضمته بقوة الى صدرها.. عندما هم الاعداء بالخروج.. استوقفهم قائدهم.. واشار الى الصبي الصغير.. وتمتم بكلمات لم تفهمها الا بعد حين.. انصاع جنديان لاوامر القائد واتجها الى الزاوية التي يقبع فيها الصغير وامه..وانتزعوه بقوة من بين احضانها.. راحت تصرخ لكن احدهم وجه بندقيته نحوها ودفعها بقوة.. الصبي يستنجد بها: اماه.. لا تدعيهم يأخذووني.. أماه..أم.. وسكن صوته في أذنيها.. عندما غاب ظله عن ناظريها.. شعرت بالارض تدور بها.. تهتز تحت قدميها.. نظرت إلى السماء المثقلة بالغيوم والمطر.. انبجست دموع عينيها تشبه مطرا حزينا راحت تتساقط بصمت.. وانسابت الكلمات من شفتيها.. ونزفت جراحات قلبها.. ولاحت ذكريات ماضيها.. وانطلقت من أعماقها آهات تلو الآهات: آه.. ما أقسى هذا الزمن المرير وما أشد هذه اللحظات هولا.. كيف تتحطم الاشياء الجميلة وتهرب من هذا العالم.. ليظهر الشيطان يعربد ويدمر.. بالأمس قتلوا شريك حياتي.. واليوم سلبوا مني الأمل الذي احيا من اجله.. اطفأوا شمعة عمري.. وضيعوا من بين يدي تعب سنين.. اخذوا ابني وتركوني وحيدة اصارع الآلام.. تركوني اعيش حلمي بعودة ابني.. تركوني لتحرقني جذوة الشوق اليه.. لتعتصرني مرارات البعد عنه.. مازالت اصداء كلماته الاخيرة ترن في اذني.. ومازلت اتخيل وجهه الساكن في قلبي.. ونظراته الحزينة التي انطبعت في عيني.. وآهاته الموجعة التي انسابت على شفتي.. أراه في كل لحظة يناديني.. يطلب مني انتظاره فهو سيعود الى احضاني يوما ما.. لذا سأبقي باب الدار مشرعا حتى يعود.. ولكن بني!.. حين يحتضن جسدي التراب قبل ان تعود لا تنس ان تزوروني لاني سأبقى بانتظارك حتى في غياهب القبر.. أسمعتني بني؟! ..أسمعتني؟!..آآآه الشمس تسافر في بحر السماء.. تجنح نحو الغروب تبهت أشعتها.. ومازالت هي تنتظر ابنها منذ أكثر من اربعة عشر عاما على انقاض منزلها المحترق.. ما اقسى الانتظار حين يتوقف.. الزمن فتصبح الساعة عاما واللحظات شهورا.. ثناء العبدالمحسن القارة