بعد ساعتين وزيادة من وقوع الموجة الأولى من القصف الأمريكي التي استهدفت القيادة العراقية, التقى احد مراسلي ( سي, ان, ان) في الكويت بمجموعة من الجنود الأمريكيين ليستفسر عن انطباعاتهم ومشاعرهم عما إذا كانوا تفاجأوا بخبر بدء الحرب, وإذا كانوا تواقين ومتحمسين للقتال , بدا واضحا من السؤال الذي طرحه المراسل انه كان يتوقع اجوبة تعبر عن فرحهم وتلهفهم للمشاركة في الحرب, وقد خابت توقعاته وربما ألم به قدر كبير من الدهشة نجح في اخفائه, عندما التقت اجاباتهم عند فكرة انهم سوف يقومون بما يتعين عليهم القيام به والعودة بسرعة الى وطنهم , لم تتدفق أجوبتهم بالحماس , وبالرغبة في القتل, فهم كما توحي فكرة أداء الواجب, إنما يقاتلون لأنه واجبهم باعتبارهم جنودا أن يقاتلوا ليقتلوا او يقتلوا, قد يعودون إلى امهاتهم وزوجاتهم مزهرة وجوهم بفرحة النصر, او يحملون من الحرب تذكارات الجروح والاعضاء المعطوبة او في توابيت وأكياس بلاستيكية, وليس لذلك علاقة بالتوق واللهفة, ليست الحرب الشيء الذي يشتهى أو يحب كما يتخيل ذلك المراسل, الحرب ليست نزهة حتى للجندي المنتصر, ناهيك عن المغلوب. لفت انتباهي من بين الجنود جندي كان وجهه الذي تخفي النظارات الداكنة جزءا منه يكشف عن عدم ارتياحه من السؤال وعدم الرغبه في الإجابة عنه كما بدا واضحا عندما جاء دوره ليتكلم ربما كان يتمنى ان لن تندلع الحرب وأنه لم يأت الى منطقة الخليج ليجد نفسه في مواجهة الموت في أية لحظة بعد ان أعلن الرئيس الذي ضرب بالقانون والشرعية الدولية عرض الحائط الحرب على العراق من مكتبه البيضاوي الذي يبعد آلاف الأميال عن ميدان القتال والعراق كله ميدان قتال منذ عقود!! عندما طرح المراسل سؤاله على الجندي: هل أنت متلهف ؟. أجاب: إنني جاهز. لم يعجب الجواب المراسل , فعلق سائلا: لم أنت متردد؟ كرر الجندي : جاهز. لم يعط الجندي المراسل الجواب الذي كان يريده, وفي تردده الذي لمسه المراسل تنكشف حالته النفسية وربما موقفه ورؤيته الشخصية للحرب التي ليس لها اي تأثير على مايجري, إنه جاهز ومتأهب للقتال كما يراد منه, جاهز لانه مطلوب منه ان يكون جاهزا وان يقاتل لانه يجب ان يقاتل, ولكي يقاتل ويستمر في القتال عليه أن يبلغ حالة من موت العواطف والمشاعر والاحاسيس , يجرد نفسه من كل ذلك إلا من غريزة البقاء إذا ما وجد نفسه في مواجهة الخصم, تتقلص كل الاشياء الى مسألة ان يقتل قبل ان يسبقه العدو ويقتله. اعتقد ان ذلك ما يحدث لحظة التقاء المتحاربين تتلاشى وتتبدد في تلك اللحظة كل الاسباب والمبررات التي يخترعها ويروجها القادة السياسيون ويعتنقها القادة العسكريون في لحظة التقاء عين الخصم بعين الخصم يغدو القتال دفاعا عن النفس وعن الذات , قتال من أجل حياة لن تستمر إلا بقتل الخصم, وتغيب تماما صورة الرئيس والقائد وتغيب أيضا الحجج أية حجج للاقتتال سواء بئر نفط أو دعاوى نشر العدالة والديموقراطية وإعادة تشكيل العالم. لكن ذلك الجندي الأمريكي محظوظ وأفضل حالا ووضعا من نظيره العراقي الغائب المغيب عن الأنظار والاسماع, الذي لم ولن يلتقي بمن يسأله عن مشاعره وأحاسيسه حتى لو كان لا يريد ان يوجه اليه مثل هذا السؤال. الجندي العراقي لا يرى ولا يسمع, وحتى لو سنحت له الفرصة فلن يقول ما يود في الحقيقة أن يقول, ليس من حقه أن يتكلم ويعبر عن آرائه ومشاعره أو حتى يقوم بما يوحي ويشي بهما من إيماءات وحركات وتعابير في الوجه او في نبرة الصوت, المطلوب منه أن يلغي ذاته تماما لتحل ذات الرئيس فيه, تدخل فيه, تتلبس به, طاردة ذاته ومشاعره وصوته, إن الجيش العراقي ذات واحد هي ذات الرئيس المهيب وصوت واحد هو صوته, ولهذا تتكرر اعتداءاته وتعدياته وهزائمه وتلك هي مأساة العراق.