يبتكر العراقيون الكثير من الأسباب لتعليل موتهم المجاني، فتجد في لحظة كل تفجير يودي بالبشر والحجر، من يقف على مبعدة ليفلسف الموت. كانوا في السابق يسألون أنفسهم: ماذا فعلنا كي نخوض كل تلك الحروب، فيجدون الجواب جاهزاً في استهانة دكتاتور بمصير شعبه. وعندما ضرب الإرهاب بغداد والمدن العراقية،بعد الاحتلال، تحول الجواب إلى انتقام يأتيهم من خارج الحدود.والحق ان ما قتل من جنود الاحتلال، لا يوازي عشر معشار مقتلة العراقيين، فعرفوا أن تصفية الحسابات معهم وفي كل الأوقات تخضع إلى كراهية تتنوع أشكالها. ولفرط ما شهدوا من مسببات موتهم، بدت المناسبات وسيلة للتقويم. اليوم عيد ميلاد صدام، وغدا مقتل الزعيم الفلاني للقاعدة،وبعد غد ما ترتب عن فشل مباحثات حول تشكيل الحكومة بين هذا الفصيل وذاك، أو توتر العلاقة بين حكومتهم وجيرانهم. ولكن الذي بقي راسبا في ذاكرتهم تلك العبثية التي تلف مصائرهم،فهم قد أدركوا في وقت مبكر أن حصادهم من الحياة محض صدفة يمنحها القدر، فتشكلت حياتهم على إيقاع تلك المصادفة، يسيرون في الشوارع على عجل او يذرعون أرصفة التيه كأنهم على موعد مؤجل إلى ما لا نهاية. كنت أقول لنفسي وأنا ألتقي الأصدقاء والأقارب، كيف لا يفكرون بالهرب من هذا الجحيم، لم أسال هذا السؤال الذي سبق أن تلقيت إجابته: هذا مكاننا وتعودنا حتى طرق الموت فيه. وعندما خرجنا في المساء الأول ببغداد، رأينا وميضاً في السماء أعقبه صوت انفجار بدا على مقربة، فعدنا أدراجنا إلى البيت. صاروخان مرا على سماء المنطقة، كانا كفيلين بنقلي إلى قلب الحدث الذي كنت أشهده على الشاشة كل يوم من مكاني البعيد. بعد ربع ساعة من صمت الصاروخين، بدأت العائلة بالمغادرة، تصنعّت الشجاعة وأنا أتبعهم في ليل بغداد، فالرجل عاد إلى تقويمه ليكتشف مناسبة الصاروخين، ومضينا معه كأن شيئاً لم يكن. ليس بإمكان أحد في النهاية أن يفسر الأشياء خارج التجربة، فكل من يفسر الحالة العراقية يفهمها حسب تصوره الشخصي، ولنضع بعيدا مصالح الموقع الذي ينطلق منه، اما من يريد أن لا يفهمها، فهو ينكر على العراقيين مجرد الدخول في معادلة تضع إنسانيتهم بالحسبان. تلك هي القضية المركزية التي راهن ويراهن عليها الإرهابيون، وهو اعتقاد لا يمكن أن يفقهه العراقي دون ملاحظة العزلة التي يستشعرها، عزلة الروح في مواجهة الموت المجاني الذي يأتيه من كل صوب. كان العراقيون يطالبون بالخبز، وهم اليوم يطالبون بالأمان، فمن يتوقع كراهية تفوق تلك الكراهية التي يذهب فيها المنتحر إلى عمال فقراء يقفون على الرصيف بانتظار رب عمل مستطرق يوفر لقمة يوم واحد لأطفالهم. إنه أمر يتخطى فعل الشيطان كأسطورة تضع الحدود بين الخير والشر، فما يحتاجه الانتحاري اليوم ليس غياب الوعي، بل صحوته على ما يمكن ان نسميه جدل اللذة والألم، السعادة المتوحشة والقدرة على إبطال الحياة ومحوها. إنها هرطقة تتعدى الحدود المرسومة لعقاب السماء، ففي لافتة خطت في شارع "كورنيش المزرعة" ببيروت هناك من يضع بيتا يقول فيه الشاعر"ولست أبالي حين أُقتل مسلما/ على أي جنب كان في الله مصرعي" تلك اللافتة الغامضة لا أعرف لماذا فسرتُ فحواها وكأنها رسالة موجهة إلي، فهي مرفوعة أمام الجامع منذ أكثر من شهر دون ان يدرك خطورتها لبناني واحد ليطالب بإزالتها، ربما هو لا يستشعر حساسية قادتني إليها المواجع العراقية. لا نعرف ثقافة تبيح هذا القتل مثلما يفهمها العراقي المكتوي بنارها، فالأردني الذي شهد تفجيرات الفنادق في عمان قبل سنوات، لم يكف عن إقامة الفواتح للزرقاوي، فهو بطل في ما يفعله بالعراقيين، ولكن أتباعه متآمرون على بلده عندما يفجرون فندقاً. سوء تفاهم انتقل إلى العراقيين أنفسهم، فأمير بغداد شاب عراقي لا يتخطى عمر الثلاثين، يخبر مراسل السي أن أن، انه لايشاهد التلفزيون، ولهذا لا يحصي عدد ضحاياه، ولا يتذكر كل العمليات التي تمت على يديه، فهو قد ارتقى منصبه الوهمي أميراً على الورق لمدينة تغري بالامتلاك. وفي ساعة صحو وغيبوبة، وبين الخوف من الموت والشجاعة ينشف ريقه ليسأل معتقليه : أين تمضون بي، إلى قبري؟ تغيرت القاعدة على أرض الرافدين، كما يطيب لقادتها من تسميات،فهي تتفاصح بحبها عندما تكتري مفردة من نوع خاص، تتغزل فيها بأرض دجلة والفرات وتمحضها ولاء الموت وحده، فقبل أيام قليلة ذبحت شيخ قبيلة في الأنبار أمام زوجته وأطفاله وعلّقت رأسه على شجرة الدار. لم تكن بافغانستان تقتل الغربيين بالسيوف وتعرضهم على شبكة النت او توزع صورة القتل على أشرطة خاصة مثل تلك التي كان يوزع فيها رجال الأمن العراقي صور تعذيب معارضيهم وقتلهم، فالقاعدة الآن عراقية الهوى مثل كل الرثاثات التي وصلت إلى الموت بعد أن اجتازت أطر الحياة والأغاني والذائقة التي خلفتها سنوات الحصار والقصور الرئاسية التي تحفل بجداريات تحلق فيها نسور حجرية. ينتقل الاميركيون ببساطيلهم في تلك القصور، فهي وحدها توفر مراحيض على الطريقة الغربية، وأحواض سباحة يبتردون فيها من حر العراق وغباره. عرض محافظ تكريت على الناس فكرة تحويل تلك القصور إلى مراكز ترفيه شعبية،يدخلها الناس بأجور معلومة، وعرض محافظ الحلة فكرة تأجير غرف قصور مدينته الرئاسية كفنادق للعرسان،ولكن من يجرؤ على النوم في وكر السلطة من عرسان العراق البائسين. طويت الصحافة أمر تلك العروض، مثل نكتة بائخة، وبقي الموت محلقاً في سماء العراق مثل نسور تلك القصور. يقول شاعر مثلما تقول صديقتي: لو جمعنا كل أطباء النفس في العالم لن يكونوا قادرين على شفاء العراقي من أمراضه النفسية، كل الحروب انتهت بسنوات معلومة إلا حروب العراق، فهي مفتوحة على اللاتوقع، فالناس تمشي وعلى خطاها تسير الكوابيس ليل نهار. رؤوسنا مطلوبة، وحان قطافها على امتداد تاريخ من المرارات تركت آثارها على الوجوه الكالحة والوجنات المتوترة والعيون الغائرة. كان سائق التاكسي يعدد لي مسيرة حياته، مذ فتح عينيه إلى اليوم، وهو بعمر ابنتي، ولكنه يسرع إلى شيخوخة تسير على إيقاعها دواليب سيارته. لا أعرف لماذا فكر انني طبيبة ربما تساعده على الشفاء من مرضه. كنت أبتلع غصة وأنا ارى يديه المتشنجتين على حديد سيارته، هو لا يملك غيرها كي يعيش، فالاحتلال حرره من الجندية التي كانت تضعه في مواجهة الموت على الجبهات، ولكنه يعرف أن مهنته الجديدة، وهو يدور ببغداد، لا تختلف كثيرا عن مهنته السابقة، فبغداد أضحت جبهات مفتوحة للموت. سأكون على خطأ لو قلت إن العراقي الذي التقيته يخاف الموت، فهناك أخوية الكوارث التي توحد الناس على مصير التعود،وفي مساء الكرادة يزدحم الناس في مسيرات تحاذي الأبنية المهدمة التي شهدت انفجار بسطات باعتها ودراجات الأطفال وصخب النساء ولغط مفاصلة البائعين. كان الزحام شديداً، وأنا أتخيل ساعة الصمت تلك التي تركتها الحرائق على البناية التي على يميني، انني أسير مع الموت والحياة في خط واحد: سكون وظلام البنايات الفاغرة أفواهها، وصخب الحياة وألوان مصابيحها وسهر فتيانها وفتياتها. شاهدت باعة الأصلبة وصور المسيح ومريم،النساء المحجبات والفتيات السافرات، وعندما تهادت أمامي امرأة مسيحية بشعرها الأشيب،عادت بي الأيام إلى بغداد الضائعة التي كنت أبحث عنها من خلل طيف مر كحلم ليلة صيف راحلة.