لعل من ابرز تداعيات العقد الاخير من القرن العشرين على العالم قاطبة ما افرزته تلك المرحلة التاريخية في حياة البشرية من ايجابيات كثيرة في مجال تقنيات الاتصال الدولي, فتحت مجالات عديدة امام شعوب العالم لتلقي المعلومات والمعارف والاخبار والمساهمة في تلك الصناعة بوسائل واساليب لم تكن متاحة لاسلافهم. واتجه العالم المعاصر - في ضوء ما امتلكه من تقنيات القرن المنصرم - نحو صياغة وسائل واساليب جديدة يقدم من خلالها منهجا خاصا به في التفاعل مع معطيات عصر العولمة, من خلال التوجه نحو التوحد في صياغة نماذج ثقافية وحضارية معينة وطرحها في (السوق العالمية) التي باتت تستوعب كل البضائع والمنتجات. وبذلك يمكن القول ان المجتمع الانساني المعاصر يمر بمرحلة ساد فيها الاعلام ما سواه, والقى بثقله على مختلف نشاطات المجتمع افرادا ومؤسسات. وتعد التجربة السعودية في مجال الاعلام تجربة غنية جدا, استمدت قوتها من واقع المجتمع الذي خاض تجارب ثرية في التنمية الشاملة تجاوزت عشرة عقود. ورغم الجهود التي بذلت خلال تلك العقود المتتابعة لتطوير العمل الاعلامي في المجتمع اكاديميا ومهنيا, والتي تمخض عنها تحولات مهمة جدا في الفكر الاعلامي السعودي من ناحية ومن ناحية ثانية في مهنية وحرفية الاداء في المؤسسات الاعلامية, الا ان الامر كان لا يزال بحاجة ماسة لنقلة نوعية في طبيعة النظرة للعمل الاعلامي واسلوب تطويره. ولهذا السبب كان تطلع الاعلاميين في المجتمع ينحو الى ايجاد آليات تضمن العمل المؤسسي المتخصص المتسم بالمرونة والتطور, كبديل افضل للعمل النمطي الآني, ولذلك لم يكن انشاء الجمعية السعودية للاعلام والاتصال مجرد صدفة. ولان الحاجة للجمعية ولدعم نشاطاتها تمثل اولوية لدى الاعلاميين, بادرت الجمعية الى عقد المنتدى الاعلامي السنوي الاول. وحظى المنتدى برعاية كريمة من صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز وزير الداخلية رئيس المجلس الاعلى للاعلام والرئيس الفخري للجمعية, ويعد تشريف سموه المنتدى بهذه الرعاية رسالة مهمة للاعلاميين تشير الى ان مستقبل العمل الاعلامي في المجتمع يجب ان يتسق مع متطلبات المرحلة بالدراسة والتقويم وبذل الجهد لتقديم عمل اعلامي مميز قادر على المنافسة في بيئة اعلامية مهنية عالية المواصفات. الجمعية في زمن الانفتاح الاعلامي: عندما ننظر برؤية الى واقع العالم الاسلامي مع بداية القرن الميلادي الحادي والعشرين ندرك ان المتغيرات العالمية قد القت بثقلها على كواهل المفكرين والعلماء ورجال التربية والتعليم والاعلام والاقتصاد. فالعالم الاسلامي اليوم يطلب منه, اكثر من اي زمن مضى, ان يكون اقدر على الاتصال بالعالم الآخر, وان يكون ايضا اقدر على استيعاب اتصال العالم الآخر به وتوظيف كل من الاتصالين لتحقيق المصالح العليا للمجتمع المسلم وللمجتمعات الانسانية كافة. وذلك نظرا لان عملية الاتصال الراهنة بين الدول الاسلامية وغيرها من دول العالم تتسم بسمات خاصة يشير اليها عدد من الدراسات المتخصصة, ولعل اهم هذه السمات: ان التباين بين الحضارة الاسلامية والحضارات الانسانية الاخرى واضح الى حد كبير فهي تختلف عن بعضها البعض بسبب عوامل اسس في الاختلاف اهمها الدين ثم اللغة والتاريخ والعادات والتقاليد والانظمة التي تسير شؤون الناس. ان عملية التواصل الحضاري, في بيئة تتسم بالتباين المشار اليه في الفقرة السابقة, عملية معقدة جدا ولاسيما من خلال اعتمادها على التطور الهائل في وسائل الاتصال والصناعات التكنولوجية, مما جعل العالم يتجه نحو التصاغر النسبي شيئا فشيئا. وكنتيجة طبيعية لهذا التصاغر, فان التفاعل بين العالم الاسلامي وغيره من شعوب العالم سوف يزداد وتزداد الحاجة اليه. ان عملية التحديث والتطوير والتغيير الاجتماعي الناتج عن عملية الاتصال مع الآخرين سوف تلقي بظلالها على اولويات المجتمعات الاسلامية طويلة الامد وتضعف دور المجتمع المحلي باعتباره مصدرا للهوية الذاتية, وهنا يظهر الدور الذي يمكن ان يقوم به اهل الاعلام والاتصال لمحاولة وقاية المسلمين من فجوات سلبية في الهوية الذاتية لمجتمعاتهم. ولان المنتدى الاعلامي السعودي يعقد في بيئة دولية تتسم بهذه السمات فان اهميته بالنسبة للمجتمع السعودي تنبع من ارتباطه بمجال الاتصال بمفهومه العام والشامل, ومن خلال سعيه للتعرف على اهم ملامح واقع علوم الاعلام والاتصال في المملكة, واهم ملامح الممارسات الاعلامية في مختلف الوسائل في المجتمع السعودي (قنوات تلفزيونية, انترنت, صحافة, اذاعة). اضافة الى تحديد رؤية واضحة نحو اهم المستجدات المستقبلية في مجال الاعلام والاتصال, وما يمكن ان يدعم ذلك من خلال مجالات الاستثمار المتعددة في تقنيات الاعلام والاتصال والصناعات المساندة لها. ولابد من الاشارة الى اهمية ان تقوم مؤسسات المجتمع المختلفة بادوار متعددة في مجال دعم قدرة ابناء المجتمع على التعامل الامثل مع عصر الانفتاح الاعلامي. فلم تعد ادبيات الانغلاق والانكفاء على الذات قادرة على تقديم النموذج الذي نتطلع اليه, للتعامل مع تقنيات الاتصال المعاصرة وتداعياتها المتعددة. فالبيت والمدرسة والمسجد والنادي والصحافة والتلفزيون والاذاعة والانترنت يجب ان تستشعر حساسية المرحلة وثقل الامانة لعل مستقبل هذه الامة يكون خيرا من واقعها المعاصر في قضايا عديدة من اهمها قضيتا الاتصال والانساني والتفاعل الثقافي. وانني اتطلع الى ان يقدم المنتدى رؤى واضحة حول عدد من الادوار التي يمكن ان تقوم بها مؤسسات المجتمع, واهمها ما يلي: مراجعة الواقع الاجتماعي والثقافي بكل جزئياته خاصة ما يتعلق بالاتصال بالآخر والدور الذي يجب ان يتبناه المجتمع السعودي افرادا وجماعات. ايجاد مزيد من الآليات المناسبة والمتفقة مع طبيعة واحتياجات المجتمع السعودي للقيام بنهضة ثقافية متوازنة. التسليم بأهمية الحوار مع الحضارات والثقافات الاخرى بطريقة ايجابية لا تلغي حق الآخر في الدفاع عن آرائه ووجهات نظره حتى لو كانت خاطئة من وجهة نظر اخرى. مع التسليم بان فكر الانفتاح الاعلامي مضاد لفكر الانغلاق على الهويات الذاتية, فان معطيات هذه المرحلة تتطلب التوجه نحو العمل الجاد لبناء معايير اخلاقية للممارسة الاعلامية والاتصالية, بدلا من التباكي على الهويات الذاتية وتقاذف التهم بين ابناء الثقافات المتعددة بل واحيانا بين ابناء الثقافة الواحدة نفسها. * عميد كلية الدعوة والإعلام عضو مجلس إدارة الجمعية السعودية للإعلام والاتصال