بقدر ما أكدت التجارب التاريخية حقيقة الحرب ليس باعتبارها مأساة إنسانية فقط تتمحور حولها بعض الحقائق ومعظم الأكاذيب ولكن كونها محطة اختبار مكثفة للمجتمعات (الكيانات والظواهر) الشعارات والمقولات، هذا عدا أنها فوق ذلك بمثابة "القابلة" التي تولّد الجديد أو "قاطرة" للتاريخ تنقله بسرعة قياسية إلى زمن آخر وأفق آخر، بمعايير ومقاييس ومواصفات جديدة على الرغم مما تثيره من دمار وتشويه مادي وخلقي. والسؤال المباشر الذي يدفعنا للوقوف عند هذه القاطرة لنتعرف على من المتسبب فيما وصل إليه العراق بجغرافيته وكيانه وتاريخه كذلك ما وصلنا إليه جميعا عربا ومسلمين؟ الإجابة المؤلمة .. هو هذا النوع من الطغاة الذين صنعوا واقعا مأساويا وساهموا بشكل أو بآخر في الوقوع ببلادهم وشعوبهم إلى هاوية لم يعيشوها من قبل، وكان عليهم في لحظة تاريخية أن يدفعوا الثمن.. وكان على شعوبهم أن تدفع ما هو أغلى وأقسى وأفدح. نظام مثل نظام الرئيس العراقي صدام حسين ، دليل واضح على هذا النوع من التهور والمأساة في نفس الوقت ، فطيلة أكثر من 30 عاما من الحكم الديكتاتوري المطلق الذي يعيدنا لقصص الستار الحديدي في العصر الستاليني ألا يحق لنا أن نتساءل: ماذا جنى العراق الشعب والوطن ؟ وماذا حدث للأمة العربية والإسلامية جراء هذا الطيش الأهوج؟ الإجابة هي هذا الخراب الذي تشبع به العراق منذ عام 1979م عندما وصلت هذه القيادة إلى منصة الحكم ويداها مملوءة بالدماء وبالتصفية والتشريد الذي طال أكثر من 25 في المائة من مجموع السكان. طيلة 30 عاما، والعراق يضيع تاريخه الطويل في مغامرات لا تنتهي . في الداخل لا صوت يعلو على صوت النظام ، لا نقد أو رأي كل يسبح بحمد "النظام" وتنهال قصائد التمجيد والتأليه ، الكل يعمل في منظومة استخبارية محكمة جعلت الجميع مسيرين في قافلة تعتمد الوشاية والتجسس للدرجة التي جعلت الابن يتجسس على أبيه وأمه وأخيه ، صورة الرئيس القائد الرفيق المهيب الركن تفوق كل ما عداها ، ولا يجرأ أحد على أن ينظر إليها بنظرة قد يشتم منها أي معنى غير الطاعة العمياء وإلا فمحاليل الأسيد جاهزة وقادرة على إذابة كل الفوارق بين الطبقات ومعها الجلود واللحوم والعظام البشرية. كل هذا نتيجة لمحاولة إرضاء غرور حاكم تشبع بنرجسية تضخمت وتشعبت وتمددت حتى سقطت في النهاية بفعل عوامل تعرية تجمعت عليها من كل حدب وصوب. في الداخل استنزاف كامل لخيرات بلد يعد من أغنى البلاد في العالم وصاحب ثاني احتياطي نفطي عالمي ، الثروة موزعة على الحاشية وأنجال الرئيس وأصحاب المصالح والمرتزقة والمنتفعين بينما قلت قيمة العملة الوطنية وصارت بفضل بركات القائد "الملهم" أقرب إلى الحضيض .. عسكرة الموارد أصبحت شعار الغمة السوداء التي ظللت سماء العراق اكثر من ربع قرن دون أن تقترب على الانقشاع ، وصار الدعاء الشعبي أقرب إلى النجوى خوفا من المحاكمة على الهمس ، ودفع جنود العراق ثمنا باهظا لحالة جنون وهستيريا شملت القيادة وأركان النظام الذين زينوا الاستمرار في حرب ضروس مع إيران لمدة 8 سنوات وراح فيها خيرة الشباب وترملت نساء وتيتم أطفال ، وفيما كان الأمل باقيا لاستعادة بعض التوازن ، عادت نوبة الهستيريا الصدامية لتلغي كل الشعارات والمبادئ والمثل والقيم العربية والإنسانية والأخلاقية وغرست نوعا جديدا أصاب العالم العربي بالذهول. نظام صدام غزا الكويت وسقطت ورقة التوت الأخيرة ومعها تكشفت كل العورات والسوءات بلا رجعة. أما كيف ؟ فهذا حديث الغد. ( اليوم)