يحكي الجنرال الروسي جوكوف في مذكراته أن نشيد الجيش الروسي أيام القيصرية كان "اللهم احفظ القيصر"، في حين يحكي نيلسون مانديلا في مذكراته أن نشيد المؤتمر الوطني الأفريقي كان "اللهم احفظ أفريقيا". وبين النشيدين يكمن الفرق بين الحرية والعبودية. .. الحرية إذا، ذلك"الوهم الجميل" الذي أطلق لسان عنترة العبسي ليرد على أبيه "إن العبدَ لا يُحسن الكرَّ والفرَّ، وإنما يُحسن الحَلبَ والصَرّ"، فقال الأب "كُرّ وأنت حر".. فكَرّ عنترة وتحول إلى بطل أسطوري يلهب الخيال الشعبي العربي بما نظل نتغنى به ربما كنوع من جلد الذات تعبيرا عن عجز فحولة.. جاءت "الفياجرا" لتضع له حلا مؤقتا! قصة بغداد ، تختزل العراق كله.. وكما قال صحفي فرنسي ذات يوم توصيفا لحقيقة مُرّة، حولت العراق بأكمله إلى ريع شخصي "إن سكان العراق 34 مليونا، منها 17 مليون عراقي، و17 مليون صورة لصدام حسين"!! حاكم، لم يكتفِ بحكم البشر، إنما امتد ليحكم ب"الصور" التي كانت منحة إلهية ومكرمة مجانية .. "صورة .. لكل مواطن "..! ولكن جاء سقوط "صدامينغراد" مع أول طلقة دليلا على أن عش العنكبوت الذي "صدقناه" طويلا ليس إلا وهماً يقبل التحويل بصفقة رصيدها الوحيد إنقاذ الرأس .. أما الشعوب فلتذهب إلى الجحيم!! ماذا قلت؟ .. الجحيم!! ألم يذهبوا إليه منذ 35 عاما؟ ألم يكن منظر الأنفاق السرية ودموع الباحثين عن "الدم" الباقي بل وجموع الذين امتدت أيديهم في لحظة عبثية تزيد النكبة وتغرس في الحلق رمحا يجاوز رمح عنترة؟ كثيرون منا لم يدركوا العلاقة بين الاستبداد الداخلي والوهن الخارجي، ولأن فيلسوفا رائعا مثل الجزائري مالك بن نبي ألحَّ كثيرا على أن "القابلية للاستعمار" تقود إلى الاستعمار، وأن "الأفكار الميتة" تمهد "للأفكار المميتة".. ولكن لم تكن هناك آذان لتسمع، أو على الأقل لتعي أن المستبد يعرف كيف يقتل ولكنه لا يعرف كيف يقاتل.. ويكون من الإنصاف أن نتبع تفاصيل الصفقة.. ونستجمع المقابل الرهيب الذي دُفعَ عاجلا وسيُدفع آجلا! ربما كان المفكر السوري عبد الرحمن الكواكبي على حق حينما أكد أنه "لا أمل في الصمود لمن يعيشون في القيود" تلخيصا لكل ما حدث في العراق ولا ندري أين المحطة التالية، وتأكيدا آخر على أن "المراهنة على حرية يأتي بها جورج بوش، لا تختلف عن المراهنة على مقاومة يقودها صدام حسين". @@@ الحرية مرة أخرى.. نيلسون مانديللا.. ما زال رصيدا ضخما لا يؤجل، أما القيصر فعن نفسي لاأذكر اسمه وكثيرون منكم لن يتذكروه.. عنترة ظل في التاريخ يمثل الانتفاضة الأولى لحقِّ المرء في العيش بكرامة وحرية لا تحتاج لحملة "تبشيرية" تحرسها الصواريخ والقنابل الذكية وأزياء المارينز عوضا عن "مآرب أخرى".. وهؤلاء الذين هللوا للسقوط إنما كان ينعون الرعب الذي صفق له من لم يعشه، وكانت حكاية "الصبي علي" نموذجا للحقيقة الغائبة والفادحة.. هل هناك من يدٍ نقبلها لنستعيد التوازن؟ توازن.. مثلما هذه "البراءة" التي أغمضت عيناها وفغرت فاها لتسلم الروح تحت سمع وبصر عالم جاء للتحرير؟ توازن.. هو الموت الذي ربما نكون الأحوج للتعبير عنه بصرخة مكتومة.. أو نغمض أعيننا انتظارا للصفعة المقبلة؟