فيما يجرى التركيز الاقليمى والدولى هذه الايام على الجانب الخاص باقتسام وتوزيع واحتكار العقود التجارية الضخمة فى العراق فان مواجهة دقيقة وحاسمة باتت تبدو ملامحها بين الولاياتالمتحدة والاتحاد الاوروبى وتتعلق بالهيمنة الادارية والنقدية المقبلة على العراق. وتبدى الدوائر الاقتصادية والتجارية والسياسية الاوروبية قلقا متصاعدا أمام التوجه الامريكى بان يعود القسم الاوفر من العقود التجارية والاقتصادية للشركات الامريكية فى العراق بالدرجة الاولى وخارج اية شرعية حكومية عراقية أو شرعية دولية لكن هذا القلق يتصاعد عندما يخص الامر المشروع الامريكى الحقيقى وغير المعلن رسميا حتى الان والقاضى بجعل الدولار الامريكى العملة الوحيدة لعدة سنوات وربما بشكل نهائى للعراق واعتبار ذلك مجرد خطوة أولى على طريق بسط الدولار فى المنطقة أسوة بما سعت اليه الادارات الامريكية المتعاقبة فى عدة مناطق من العالم وتحديدا فى دول أمريكا الجنوبية. ومع الوصول الفعلى للجنرال الامريكى غاى غاردنار لبغداد وفيما تتأهب الولاياتالمتحدة التى كسبت الحرب لوحدها فى العراق الى ادارة وتوجيه الشؤون اليومية اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا لاكثر من أربعة وعشرين مليون عراقى فان المهام التى تنظر واشنطن فى العراق تبدو مرتبطة بالعديد من التساؤلات القانونية والسياسية والدبلوماسية. ووضعت الادارة الامريكية بالفعل وخارج اى اطار دولى خططا مفصلة للتحكم فى الحياة الاقتصادية والادارية داخل العراق مباشرة بعد سقوط العاصمة العراقيةبغداد وشكلت فريقا من أربعمائة موظف وصلوا صباح اليوم للعاصمة العراقية معظمهم من العسكريين والدبلوماسيين المتقاعدين وبعض المنفيين لهندسة ادارة جديدة فى العراق تكون تحت توجيه أمريكى مباشر ومستديم. ومن المتوقع أن يبلغ عدد أعضاء هذا الفريق خلال الايام القليلة المقبلة اكثر من الف شخص ستعهد اليهم بمهمتين رئيسيتين وهما الاشراف على تقنين وتوزيع المساعدات الانسانية واعادة تشغيل المرافق العامة والحكومية العراقية قبل البدء فى مرحلة اعادة البناء الفعلية وما يرافقها من اقتسام للعقود التجارية. ويرى المحللون الاقتصاديون الاوروبيون ان خطة اعادة أعمار العراق ستمثل أحد الجوانب المثيرة فى المواجهة المقبلة بين الولاياتالمتحدة وبقية دول العالم وليس فقط الاتحاد الاوروبى الخاسر الاكبر من الحرب الاخيرة ستواجه واشنطن دولا مثل روسيا واليابان وحتى عدد من الدول العربية ذات الروابط التجارية الجيدة تقليديا مع العراق. وتقدر المفوضية الاوروبية فى بروكسل بشكل غير رسمى تكاليف السنة الاولى من اعادة اعمار العراق بزهاء عشرين مليار دولار وترجح نفس المبلغ بالنسبة للاربع سنوات التى تليها. ويؤكد الخبراء الاوروبيون ان الولاياتالمتحدة لوحدها لن تكون قادرة سوى عن الافراج عن مبلغ أول يناهز الاثنين مليار دولار وتكريسه للعراق اذا أرادت تجنب عجز كبير فى مديونيتها العامة اى أن واشنطن ستكون مجبرة على البحث عن مصادر بديلة لتمويل العراق ومن خارج الولاياتالمتحدة. ولكن مثل هذا التوجه الامريكى للبحث عن مصادر تمويل أخرى سيمثل بداية المعضلة القانونية والشرعية للولايات المتحدة لكون اى ركون لها للثروة النفطية العراقية وخارج قرار واضح من الاممالمتحدة سيجعلها فى موقف صعب بسبب الاتهامات التى وجهت اليها حتى الان بأنها خاضت الحرب ضد النظام العراقى السابق لاغراض نفطية. وحذرت روسيا وفرنسا التى تمتلك مصالح نفطية معروفة فى العراق وكذلك مجمل دول الاتحاد الاوروبى من أن انفراد الولاياتالمتحدة مع شركاتها بالنفط العراقى سيمثل تجاوزا للتفاهم الدولى النسبى الحاصل حتى الان بشأن ادارة الازمة العراقية. وتحرم القوانين الدولية على اية قوة محتلة أو مسيطرة على دولة أخرى تغيير دستور وتشريعات هذه الدولة وهو ما يعنى أن اى قرار بشأن اعادة اعمار العراق يجب أن يمر عبر سلطة انتقالية عراقية تشرف عليها الاممالمتحدة. وتقول المصادر الاوروبية ان قادة الاتحاد الاوروبى الذين اجتمعوا الاسبوع الماضى فى العاصمة اليونانية أثينا متفقون على هذا الموقف القانونى. وبدت المعارضة الاوروبية واضحة للدعوة الامريكية رفع العقوبات الدولية المفروضة حتى الان على العراق حيث يعتبرها الاوروبيون مسوغا لتكريس الوجود العسكرى الامريكى البريطانى فى العراق. وقد دحضت الدول الاوروبية فى معظمها الطابع القانوني والشرعي للحرب الاخيرة ضد العراق وشددت فى أهدافها المعلنة وهى التخلص من أسلحة الدمار الشامل العراقية وتوفير مناخ سياسى افضل للعراقيين وتعارض نفس الدول حاليا اى تجاوز جديد للشرعية الدولية عبر الانفراد بالثروة العراقية أو فرض نظام ضد ارادة أغلبية العراقيين. ويخشى الاوروبيون من أن يؤدى التحرك السريع لرفع العقوبات عن العراق الى ارتفاع الضرر بسلطة الاممالمتحدة التى تدهورت بشكل حاد فى الآونة الاخيرة. وترى دول الاتحاد الاوروبى حاليا ان العقوبات ما هى الا جزء من منظومة معقدة من الادوات السياسية التى يمكن الركون اليها بهدف تعزيز نفوذ الاممالمتحدة فى العراق وليس العكس. وسيكون من الصعب ليس على الحكومات الاوروبية بل على مجمل المؤسسات والشركات الاوروبية الكبرى قبول ان تجرى المعاملات التجارية مع العراق خلال الفترة المقبلة دون موافقة الاممالمتحدة. وقد تمكنت الدول الاوروبية حتى الان من دفع البنك الدولى وهو أهم سلطة نقدية دولية الى ربط اية معاملات تجارية مع العراق بموافقة واضحة من مجلس الامن الدولى ويضاف لهذه الجوانب التجارية والقانونية فى ادارة اعادة العراق وما تتسبب فيه من انقسامات دولية واضحة جوانب أخرى ومنها الجوانب الفنية أولا والنقدية البحتة ثانيا. فعلى الصعيد الفنى يبدو من الصعب على القوة المسيطرة على العراق ان تتمكن لوحدها من اعادة تشغيل المرافق العراقية المختلفة وتحديدا المنشآت النفطية بالسرعة الضرورية التى تؤمن دخلا فعليا للعراقيين يمكنهم من تجاوز تداعيات الحرب واثارها المدمرة. وتبدو المنشآت النفطية العراقية ومختلف المرافق الاخرى غير مؤهلة حاليا وتوجد حاجة ماسة الى خمسة مليارات دولار على الاقل حسب خبراء المفوضية الاوروبية لاعادة تشغيل وتأهيل مجمل هذه المنشآت والمرافق وبالسرعة المرتقبة وهو ما يعنى أن اعادة اعمار العراق وبالاعتماد على الثروة النفطية العراقية يستوجب متسعا من الزمن. ومن الجوانب المثيرة للتساؤلات الاوروبية والدولية فى مرحلة اعادة اعمار العراق الجانب النقدى البحت فى المعادلة العراقية والخيار الخاص باختيار نوعية العملة التى سيتم تداولها فى العراق. ويعتبر التوجه الامريكى الحالى بالتعامل مع الموظفين والمستخدمين العرقيين بالدولار الامريكى والذى وصلت كميات ومبالغ كبيرة منه لبغداد مؤشرا على نية فعلية لبسط الدولار الامريكى فى العراق وكل ما يحمله ولو بشكل مؤقت وجلى من انقلاب فى سلوك المواطنين العراقيين واعدادهم للتنازل التدريجى عن بعض ملامح السيادة الوطنية. كما ان مختلف الخبراء والمراقبين الاوروبيين يعتبرون ان مثل هذا الخيار يهدف الى تكريس العملة الامريكية فى التعامل الدولى على حساب العملات الاخرى وفى مقدمتها اليورو. واذ ما امتنعت الادارة الامريكية فى العراق وبشكل مطول عن تفعيل هيكل المصرف المركزى العراقى فان خيار الدولار كعملة تداول سيتحول الى اعتبارها عملة المرجع فى العراق وكل ما يحمله من تداعيات سياسية ودبلوماسية واقتصادية داخل ومن حول العراق. جارنر يطالع خطة اصلاح الشبكة الكهرباء العراقية.