العجيب في بعض الناس أنهُ الآن يتمتعُ يوميا بأقصى ما يُريد التعبير عنهُ، قولاً وكتابةً، وليس يتورّعُ عن استخدام أرخص اللغات في بعض الأحيان، ومع ذلك فهُوَ يتباكى على حريّة التعبير والنشر المهدورة في البحرين، ويولولُ مُصطنعاً الوجع والفجيعة من فرط الاضطهاد الواقع عليهِ (ولكنء الأصحّ من شدّة الشعور المُجرد، الغائر في الأزمان، بعقدة الاضطهاد)، ويتواثبُ على مشهدٍ من الناس زاعقاً من بعيدٍ، على هذا المسئول أو ذاك، أو هذا الوزير أو ذاك، مُبدياً هاهنا من البطولات الشيء الكثير والوفير، بينما هؤلاء، الذين هُوَ يُهاجمهم، بالكاد يُلاحظون وجودهُ في البلاد، فضلاً عن أنء يُزعجهم أزيزُهُ المأزوم. قُدّرَ لي أن أعيش في بيروت طوال النصف الأول من السبعينيات، إلى أنء اشتعلت الحرب الأهليّة، وطوال تلكمء الأعوام الخمسة كان احتفالنا صاخباً، وليل نهار، ب (حريّة النشر والتعبير) في لبنان آنذاك، فلقد كانتء بالفعل صحافة مُدهشة، وكانتء حرّيّة تعبير أكثر من مُدهشة، ثمّ اشتعلت أرض لبنان بالحرب، فماذا نحن يومذاك اكتشفنا؟ اكتشفنا أنّ (حريّة التعبير والنشر)، هي في مُحصلتها الأخيرة، لم تقشع فساداً، ولم ترفع ظلامة، ولم تدفع انحرافاً، ولم تمنع خراباً، ولم تقطع يدَ سارقٍ، ومع أنها كانتء يومئذٍ الرئة العربيّة في الجوّ العربيّ العام الخانق، إلا أنها في داخل لبنان إنما فتحت الأبواب للأقلّيات والطوائف كيء تنحرَ وطنها، وتنتحر هِيِ، وليرتفع من أتونها الشعار الباهت عن (الوطن المارونيّ) (أو النصراني)، مُعزّزاً بالصّيحة المُتحشرجة: (غأيها المُسلمون غادروا لبنان وعُودوا إلى مكّة)! بين الذرائع الظاهرة وبين الدوافع الخفيّة بَون شاسعٌ، وفروق جوهريّة جدا، فهؤلاء المُتباكون على (حريّات التعبير والنشر) ليس قلبهم على الحريّة، ولا على الإصلاح، وإنما قلوبهم هِيِ فقط على إصلاح الطرقات الطويلة، من كلّ الجهات، للزحوف التجزيئيّة، ذات الأجندة الاستراتيجيّة، وهي الزحوف التي صار لها الآن سياقها الإقليميّ الواسع، المُتدافع بالأماني وأحلام اليقظة والأشواق. اخبار الخليج البحرينية