في إطار تخصيص هذا العام عاما لفلسطين استضافت الجامعة الأمريكية الشاعر الفلسطيني محمود درويش مؤخرا, في الأمسية التي أقيمت في قاعة (إيوارت) أشهر قاعات الجامعة الأمريكية وأكثرها اتساعا وحضرها نخبة من رموز المجتمع العربي ومثقفيه منهم غسان سلامة وزير الثقافة اللبناني, والكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل, وعلي أومليل سفير المغرب في القاهرة, ومحمود أمين العالم والفنانة اللبنانية نضال الأشقر. في بداية الندوة داعب محمود درويش الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل قائلا: يبدو لي أنها من المرات القليلة التي يجد فيها الأستاذ هيكل نفسه مستمعا فأرجو ألا أثقل عليه وعليكم! وأضاف: يسرني أن أشارك اليوم في عام فلسطين التي يبدو أن عمرنا كله لم يكن كافيا لنشهد لحظة تحررها واستقلالها, لكن شعبها المسكون بهاجس الحرية وجنون الحرية مصر على أن يجعل هذه اللحظة قريبة بأي ثمن ومهما كان الثمن, ما أصعب أن يكون المرء فلسطينيا وما اصعب أيضا أن يكون الشاعر فلسطينيا. إذ عليه أن يكون داخل نفسه وخارجها في آن واحد, عليه ايضا أن يحقق الجمال والانفعالي معا. عليه أن يتدبر سياسة الأسطورة وعليه أن يتبصر شعرية الواقع, عليه أن يكون اثنين في واحد شاعرا وسياسيا. فالإنسان كل لا ينفصل لكن نشاطاته ليست واحدة فلكل نشاط طبيعة تعبير مختلف وماهية مختلفة. فادراك العالم شعريا بأدوات الحلم والخيال وبرؤية الكلي في الجزئي يدفع بالسياسي المقيم في الشاعر إلى منطقة التخفي.كذلك يخرج الشاعر من السياسي عشية الاحتفال الأول بالوصول إلى السلطة, شعرية كانت أو وهمية .. ان الشاعر في مرحلة الطوارئ سياسي بالضرورة لأنه جزء من مقاومة الاحتلال وهو مطالب دائما بالوفاء للصورة التي يرصدها القارئ لدوره من جهة ومطالب أيضا بالتمرد على ما يتوقع منه كمنتج (خطاب) مباشر ولشعارات سريعة التأثير من جهة أخرى.. يبدو هذا التوتر بين حرية الشاعر في أن يرى العالم شعريا وبين ضغط اللحظة التاريخية التي تحدد حريته الإبداعية بتعبيرها عن الراهن امتحانا عسيرا جدا لقدرة الشاعر على الحياة خارج لحظة كتابته. لذا يهددنا دائما سؤال حائر: وماذا في اليوم التالي؟ ماذا عندما تتغير الظروف؟ لا يستطيع أحد التكهن بالإجابة أبدا إلا بالقول العام: إن الشعر لا يعرف بالأشياء التي يقولها وإنما بالكيفية التخيلية التي كتب بها, ولكن ما دام موضوع الإنسان والحرية هو موضوع الأدب الدائم فلماذا يسارع بعض نقادنا إلى التعبير عن خشية مبكرة من تحرر الفلسطيني حرصا على شعره الذي لا ملهم له إلا الاحتلال!إذا كان الأمر كذلك, فإن في وسع الفلسطيني الساخر أن يقول : ليذهب الشعر إلى الجحيم ثم نتدبر أمرنا. هذا جواب شامل, وإذا شئنا أن نكون أكثر جدية, فعلينا أن نلاحظ أن ضغط الراهن المتشابك على المخيلة الشعرية قد يهددها بالإرهاق ويسجنها في اليومي المتحول إلى عادي وإلى نمط حياة روتينية. إن علي الشاعر الفلسطيني أن يثبت المكان في اللغة دون أن تتحول اللغة إلى جغرافيا وأن يضع الراهن في سياقه التاريخي دون أن تصير اللغة تاريخا, عليه أن يحمي الواقع من شعرية الأسطورة وأن يحمي أسطورته من خفة الراهن. وعليه أن يجد في العاصفة الدائمة ما يشبه حيزا صغيرا لقيلولة وجودية ليتسنى له أن يطل على نفسه دون أن يفقدها.. فهل هذا ممكن؟ لا أعرف وكم يسرني أني لا أعرف!!ثم ألقى درويش قصائده من ديوانيه الأخيرين (حالة حصار) و (وجدارية).. كما ألقى عدة أبيات من روائعه منشدا: (لي حكمة المحكوم بالإعدام لا أشياء أملكها لتملكني / كتبت وصيتي بدمي / ثقوا بالماء/ يا سكان أغنيتي/ ونمت / حلمت أن الأرض/ أكبر من خريطتها وأصغر من مراياها ومشنقتي).