وضعت قدمي على سلم اتوبيس (خط البلدة) بارتباك وتردد ظاهرين، كمن يقتحم عالما جديدا لم يصل اليه بمخيلته من قبل، اجاهد نفسي وادفعها الى الامام، وتغالبني الرهبة فتقهقرني مترنحا الى الخلف، لم يكن بامكان من هم ورائي الانتظار، فهناك من يدفعني ليصعد، وآخر يصرخ بنا لكي نفسح الطريق. تدافع وصراخ، وكأن الجميع هنا يتآمرون على الزج بي الى مصير مجهول. غرست يدي الصغيرتين بدفتي باب الدخول مكورا جسدي، ودافعا به الى الخلف بشدة، كمحاولة اخيرة للخروج من فوهة البركان، لم يكن الوقت كافيا لمزيد من التفكير، ولا اي من هؤلاء الحمقى سيترك لي فرصة التراجع الى الخلف، وفي لحظات بسيطة خارت قواي، فسقطت على الارضية المعدنية المتسخة بدنس اقدام داستها لسنين طوال. كنت ارمق وجه (الدحمي) المتشع بالوجل، وقد احتل مقعدا قريبا من الباب، انزوى به منكفئا على نفسه، كقط التصق بحائط خشية مواجهة خصم شديد البأس. استجمعت اصراري المرتبك، ورميت بعظامي الصغيرة الى جانبه، والتصق كل منا بالاخر، لنرسل الى دواخلنا شيئا من رباطة الجأش، لا مجال هنا للتراجع فسائق الاتوبيس الضخم، بثوبه المتشح بالقذارة وشماغ يحمل بقعا من الزيت القى به على كتفه دون اكتراث يجوب طرقات المدينة بتعرج فوضوي، ويرشق تخوفنا، من وقت لآخر، بنظرات تتلصص من فوق نظارة، (البشاوري) السوداء التي ستر بها عينيه ورغباته. ثمة شرطي، على الطرف الآخر.. اشتغل بمسح حبات عرق نزت على جبينه، بمنديل صنع من قماش قطني حوصرت اطرافه بوردات نسجت بطريقة فجة. بوجه تعلوه ملامح كدح وتعاسة حد التبلد، وبرغم ان الشرطي عدو للاطفال حيث يسجن من يغضب منهم والديه، الا ان وجوده كان مريحا لي، ول (الدحمي) بعض الشيء، فبه قد نحتمي من القادم المجهول. @@@@ مر بعض الوقت دون مفاجآت لتتسلل حالة من التبلد الينا خلسة، فاخذ كل منا جلسة جاهد كي تبدو اقرب الى الطبيعية.. دفعت الستارة المصنوعة من مخمل ازرق رخيص تدلت على اطرافه كتل مستديرة من الخيوط البيضاء، لارقب منظر الشوارع والمارة الذين يتخاطفون على جوانب الطريق ببلاهة دون ان يلقي اي منهم بالا لما يجري هنا. انوار الشوارع الصفراء، وفلاشات لوحات المحلات المضيئة بشكل مستمر ببعض منها، ومتقطع في اخرى، جعلت المنظر جميلا لطفل لم يخض تجربة مماثلة من قبل، مما جعل شعورا اشبه بلحظات الحساب، يتراوح بين سعادة مضطربة ورهبة، يسيطر علي قطعه تسلل الشرطي الى خارج الاتوبيس بشكل سريع دون ان يتوقف السائق. لم اتمالك نفسي عندها، وبدأت بالصراخ في وجه (الدحمي)، الذي اغراني بفكرة الذهاب الى (كافيتريا جهينة) استجابة لاغراء زرعه ابن خاله في صدره. المسافة بدت طويلة جدا، والوقت كان يمر كشريط عمر كامل نقلبه امامنا في تلك اللحظات، وعيناي المرتبكتان ملتا الالتصاق بظهر المقعد المواجه لي، حتى خيل لي انني حفظت كل مربعاته البلاستيكية وخطوطه المتقاطعة بزرقة داكنة واخرى رصاصية. برهبة تزداد تصاعدا كلما غادر راكب آخر الاتوبيس، لاضع يدي على قلبي وادعو الله ان لا نكون آخر من يغادر، لكي لا يخلو بنا السائق المتهجم. @@@@ توقف الاتوبيس بالقرب من الرصيف المقابل لفندق زهرة الشرق، ولم يعد هناك من الركاب سوى انا وصديقي، دسسنا نصف ريال بيد السائق وانزلقنا الى الخارج بسرعة، ودهشة كمن خرج للتو من زنزانة معتمة قضى بها نصف عمره.. وما ان وطأت اقدامنا الرصيف، حتى ترجل السائق متجها الينا..! التصقنا بزجاج محل شعبي تعس، دون حراك، كجيش حاصره العدو بقلب واد قاحل فتوقف افراده عن النفس انتظارا لمصير الموت الحتمي. جسد ضخم كالغول يركض بلهفة متسارعة، وقدمان ضخمتان تزلزلان الارض تحت اقدامنا.. كل شيء اوشك على الانتهاء.. لم ينبس اي منها بكلمة، بل حبسنا الانفاس واغمضنا اعيننا لكي لا نرى ملك الموت وهو يخطف منا الارواح. بعد لحظات، مرت كعمر مديد من اللوعة والاسى, رشقنا السائق بابتسامة لم نفك طلاسمها قبل ان يدلف الى المحل الذي التصقنا بزجاجه، ليدس (نصف الريال) بيد صاحب المحل فيلتقط رغيفين وضع احدهما في فمه والآخر تحت ابطه. سعيد الاحمد