الاحساء هذه الواحة الخضراء في شبه الجزيرة العربية التي امتدت اليها يد الخير والرفاهية حينما استردها المغفور له الملك عبد العزيز طيب الله ثراه في عام 1331ه وأعاد بذلك ملك آبائه وأجداده بطرد الأتراك منها ، حتى أصبح هذا العام (1331ه) علامة مضيئة في منطقة الخليج العربي بشرت ببزوغ فجر جديد لمجتمع عصري وحضري في هذه المنطقة. وقد أولى جلالته الاحساء اهتماما خاصا وعناية كبيرة. وأصبحت بعد ذلك من ضمن منظومة عقد الدولة السعودية المعاصرة ، التي تعيش كبقية مناطق المملكة في ظلال العدل والأمن والأمان بعد ان كانت في السابق تعيش بكثرة الاضطرابات والفتن المنتشرة والفوضى السائدة من الأتراك آنذاك. ان اهتمام الملك عبد العزيز بالاحساء لدليل على مكانة هذه الواحة في قلب جلالته ، والتي تجسد تلك المكانة المهمة علاقة حب واهتمام قديمة من ولاة الأمر من آل سعود الكرام بالأحساء امتدت جذورها منذ الدولة السعودية الأولى ، ابتداء من عهد الإمام سعود ابن عبد العزيز بن محمد والإمام تركي بن عبد الله والإمام فيصل بن تركي ، والإمام عبد الرحمن آل فيصل رحمهم الله الذين وضعوا تدابير اصلاحية كثيرة لشئون الحياة في الاحساء وتنظيمها والحفاظ عليها وإكرام الأهالي والاهتمام بهم وعدم التفريط الى أي مطامع أجنبية. وبمناسبة اليوم الوطني للمملكة العربية السعودية هذا اليوم التاريخي المشرف والمشهود لابناء هذا الوطن المعطاء ، تجدر الإشارة الى ذكر أحد الشواهد الكثيرة على اهتمام الملك عبد العزيز بالأحساء ، الا وهو ذلك الحديث الصحفي الذي أدلى به جلالته للصحفي ابراهيم عبد العزيز الدامغ في جريدة "الدستور" العراقية في شهر ذي القعدة من العام 1331ه (المرجع: محيي الدين القابسي ، المصحف والسيف ، ص149) وكان ذلك بعد ان استعاد جلالته منطقة الأحساء من العثمانيين. يعطينا هذا الحديث بمضمونه ابعادا ودلالات عن رجل دولة مصلح حباه الله تعالى بنعمة الظفر والنصر في كل الميادين ، فتطابقت أفعاله بأقواله في تأسيس دولة دعائمها مستمدة من ديننا الإسلامي الحنيف ، وفيما يلي نص هذا الحديث: ( ان الدولة العلية حفظها الله غصبت آبائي هذا اللواء (الأحساء) بدون أمر مشروع ، بحجة دعوة عبد الله السعود شقيق والدي ، ومن بعد ان أخذته لم تحسن صنعا ، وكان والدي يومئذ ولي العهد بعد أخيه على إمارة نجد التي يدخل فيها هذا اللواء وما يتبعه. ولما اشتد الخصام بين سعود وعبد الله آل سعود على الإمارة ، أرسل الأخير مندوبا الى بغداد لمفاوضة واليها في مسألته مع أشقائه ، وبقي ينتظر من الدولة إسعافه ونجدته لإخماد نار الفتنة المتأججة غير ان الدولة وجدت انه قد آن زمن الاحتلال ، فوضعت يدها منذ ذلك الوقت على الأحساء ، وأبعدت أمراءها عنها ، مع انه لم تبدر عنهم بادارة تستوجب ما أتته ، وليت الدولة احتلت ما يداني الأحساء من البلاد كعمان وغيرها التي تركتها هملا ، ومكنت الدول الأجنبية من أن تقذف فيها نار الفتن لتحصل على ما تنويه. ومنذ ذلك الوقت أخذ سكان هذا اللواء بالسقوط لتغلب قطاع الطرق عليه ، لكثرتهم هناك ، وكان الأهلون يرفعون ظلاماتهم الى مقام الولاية ويذكرون له عجز أصحاب الأمر في ذلك الموطن ، فما كان يسمع صدى لأصواتهم المتكررة ، فراجعوني مرارا . فضربت عنهم صفحا إذعانا لدولتي ، وإنما كان يسوؤني نظري إياهم في تلك الحالة لأن مجتمع الإنسان كالجسد ، إذا أصيب عضو منه بآفة انتقل الألم الى الجسد كله. ثم جاءتني محاضر فيها تواقيع كثيرة من العلماء والوجوه قائلين: إن لم تسعفنا سنضطر الى ما لا تحمد عقباه ، وفي تلك المطاوي سمعت أن الدولة تنازلت عن حقوقها في الخليج وسواحله ، فاستندت حينئذ الى ما لي من الحقوق الشرعية ، بمنزلة أساس ، فبادرت إلى تلبية طلب الأهالي ليكونوا في حرز حريز من فتك أرباب الفساد فيهم ، وإبعاد الأجانب عن ديارهم. فهذه هي الأمور التي ساقتني الى ما أتيت ، فقدمت الأهم على المهم ، وسرحت موظفي الإمارة محافظا على حياتهم بدون أن ينالهم أذى ، وعليه إذا أمعن النظر رجال الدول المخلصون في هذه المسائل ، وفكروا في مآلها احسن تفكير ، وأعطوا لكل ذي حق حقه ، ولاحظوا الأمن الضارب اطنابه في البلاد وتثبتوا مما انتشر من مرافق العمران بين العباد ، حبذوا عملي هذا ، لا سيما إذا علموا أني قطعت دابر الأشقياء والمفسدين .، وحقنت دماء الأهلين ، وبسطت أروقة الراحة بين العالمين). وثيقة تاريخية لقد قدم جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله بهذا الحديث الصحفي وثيقة تاريخية للعالم ، رسم بها خطوطا عريضة لسياسته على المستوىين الداخلي والخارجي للمملكة العربية السعودية بكافة جوانبها الحياتية والمعيشية والتي تركزت على أبعاد رئيسية ، وهي البعد الأمني والسياسي والحضاري والتي ترمي بظلالها إلى الحفاظ على الوطن وحماية ثرواته وتنميتها لصالح الوطن والمواطن وصون أمنه وسلامه واستقراره . وهذه الأبعاد كالتالي: البعد الأمني كما ذكرنا سابقا فإن الأحساء قبل استرداد الملك عبد العزيز لها كانت تعيش حياة يسودها ظلم وتسلط الأتراك وكذلك فإن الأحوال الاجتماعية والمعيشية والاقتصادية فيها ، آنذاك ، كانت بالغة السوء ، نتيجة النزاعات والفتن بين الأهالي والقبائل المجاورة وتردي الأوضاع الأمنية ، وخوف الأهالي من التدخل الأجنبي ومطامعه. فهذا ما جعل أهالي الأحساء يكتبون للملك عبد العزيز عدة رسائل يطلبون من جلالته ويدعونه فيها إلى المجيء للأحساء وطرد الأتراك منها ، وتخليصهم من الظلم الواقع عليهم ، حيث ان الثمار قد اينعت وحان وقت قطافها ، فحقق الله تعالى آمالهم بتلبية الملك عبد العزيز لمطالبهم بمجيئه الى الأحساء ونصرة الله له بطرد الأتراك ونشر العدل والانصاف نتيجة تطبيق شرع الله تعالى وسنة نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم واعطاء كل ذي حق حقه ، حيث أوضح جلالته رحمه الله عن هذا الجانب في حديثه الصحفي شارحا أسباب مجيئه للاحساء فقال : ( فبادرت إلى تلبية طلب الأهالي ليكونوا في حرز حريز من فتك أرباب الفساد فيهم وابعاد الأجانب عنهم). وقد نعمت الاحساء بعد ذلك بنعمتي الأمن والأمان وعاش الأهالي في دوحة من الحياة الهادئة والطمأنينة النفسية المنشودة ، بل عمت هذه النعمة جميع مناطق البلاد والبلاد المجاورة لها في الجزء الشرقي للجزيرة العربية ، وذلك بفضل من الله ثم بنوايا الملك عبد العزيز الصادقة وجهوده المخلصة ، وهذا ما أكد عليه جلالته رحمه الله من ضمن حديثه الصحفي فقال: ( لا سيما إذا علموا أني قطعت دابر الأشقياء والمفسدين ، وحقنت دماء الأهلين ، وبسطت أروقة الراحة بين العالمين) البعد السياسي أما البعد السياسي في حديث جلالته ، فقد كان لحرص جلالته على ابعاد الخطر من منطقة الاحساء واستعادة الاحساء وابعاد الأتراك عنها. وكان ذلك سببا في احباط الخطط الاستعمارية في دول الخليج العربي ، الأمر الذي سجل لجلالته المواقف المشرفة في الحفاظ على سيادة أمن منطقة الخليج وتوثيق روابط العلاقات بين دول الخليج العربية وذلك لما ينشده الواجب العربي والإسلامي، والذي كان يحمل جلالته هموم شعوب هذه الدول الشقيقة حمله لهموم شعبه رحمه الله ويسعى دائما لحل مشاكلهم ونصرة قضاياهم لتسود المحبة والأخوة بينهم وتعزيز عامل السلام والتعايش السلمي في المنطقة. البعد الحضاري اما البعد الحضاري في حديث جلالته التاريخي ، فقد تجلى في إيمان جلالته ان اقامة العدل المستمد من القرآن والسنة هو أساس التنمية والتحضر والاستقرار والطمأنينة في البلاد ، وهذا ما أكده جلالته في هذا الجانب من حديثه رحمه الله فقال: ( ولاحظوا الأمن الضارب أطنابه في البلاد وتثبتوا مما انتشر من مرافق العمران بين العباد حبذوا عملي هذا). هذه هي الرؤية الصائبة والفكر التخطيطي والتنموي والاستراتيجي السليم في الاهتمام بجوانب التنمية والتحضر وتوفير مرافق العمران وانتشاره واتساع المدن في البلاد ، ليعيش الأهالي في الاحساء وبقية مناطق المملكة في رغد من العيش والرفاهية والسعادة. فقد كان جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله صريحا كل الصراحة في حديثه الصحفي بما تضمنه هذا الحديث من معان ودلالات ، الذي يعتبر نهجا يحتذى به بكل أبعاده المتعددة ، وفنا من فنون صناعة التاريخ بمفاهيمه الحضارية والانسانية ، والذي علل فيه جلالته مبادرته التاريخية في استرداد الاحساء وخطواته الإنسانية واحساسه بمشاعر أهل الأحساء ومعاناتهم ، كقوله في حديثه: (وإنما كان يسوؤني نظري إياهم في تلك الحالة لان مجتمع الإنسان كالجسد ، إذا أصيب عضو منه بآفة انتقل الألم الى الجسد كله) وكذلك حرص جلالته على المحافظة على سلامة حياة موظفي الامارة التركية بالاحساء وألا يصيبهم أي أذى حين تسريحهم وإخراجهم من البلاد. كقوله بهذه الكلمات السامية المعبرة في حديثه: ( وسرحت موظفي الامارة محافظا على حياتهم بدون ان ينالهم أذى) وهذا دليل على إنسانية شخصية جلالته العظيمة وحرصه رحمه الله على عدم تعرض الآخرين لأي أذى حتى وان كانوا من أعدائه. حقا ان هذا الحديث الصحفي للملك عبد العزيز ليس الا جزءا من فكر جلالته رحمه الله الذي نلتمس ونستشف منه هذا الحديث روح القائد السياسي المحنك ، ورجل الإدارة الذي امتلأت سيرته العطرة بمواقفه الإنسانية الخالدة في السلم والحرب والذي شغل العالم بمنجزاته الحضارية وعظم شأنه في أعمال الإصلاح والتعمير والتحضر. * عضو اتحاد المؤرخين العرب