حينما تتأمل العلاقات الانسانية بين الناس هذه الأيام.. بل منذ فترة ليست بالقصيرة وفي تعاملاتهم مع بعضهم البعض سواء كأفراد او جماعات، وسواء كعلاقات داخل الأسرة الواحدة او علاقات القرابة والصداقة او علاقات العمل، فانك تحزن بحق لتلك الثقة المفقودة بينهم، ولذلك الشك الذي تتسع رقعته اكثر واكثر فيما بينهم على حساب العلاقات الانسانية التي يفترض ان يكون لها مكان ولو صغيرا في هذا العالم المادي الكبير التي بدأ يلتهم كل شيء جميل بداخلنا ويحيله الى جماد لا روح فيه ولا طعم له! ولا امل يرجى منه.. وفي وضع كهذا، نتساءل: ترى ماذا يتبقى للانسان في هذه الحياة من ثقة بمن حوله؟ وما طبيعة الحياة التي يعيشها حينئذ؟ انني لا اتصور هذه الحياة الجميلة بدون ثقة بين الناس، بدون احترام وتقدير متبادل بينهم، بدون كلمة شرف يلتزم بها صاحبه فتلزمه وتطوّق عنقه. وهل من المعقول ان يكون كل شيء بين الناس مكتوبا كي يلتزموا به وكي نضمن حقوقنا من خلاله؟ أليس الانسان بكلمته كما يقال؟ ام انها هي الاخرى كلمة عفى عليها الزمن وولت إلى غير رجعة ولم تعد صالحة للاستعمال الآدمي؟ ان من اجمل الامور التي تربطنا بالحياة، وتجعلنا نقبل عليها بكل رغبة ونستمتع بها ونسعد بكل ما فيها وجود الثقة بين افرادها، بيني أنا وأنت وهو وهي، بين كل فرد يريد ان يكون صادقا مع الطرف الآخر ايا كان هذا الطرف زوجا او زوجة او قريبا او صديقا او زميلا وايا كانت طبيعة علاقته به. صحيح ان الثقة مطلوبة في جوانب كثيرة من الحياة، ولكن هناك جوانب حياتية لا يمكن بأي حال من الأحوال ان نعتمد فيها على الثقة في الآخرين كما هو الحال من النواحي الأمنية للوطن وسواها، فالأمر هنا مختلف، ومختلف جدا، وهذا ما ينبغي ان يكون بل ليس هناك فيه مجال لحسن النية، لأنه متعلق بأمن واي أمن، وكذلك الحال مع المجرمين والمخربين وسواهم، فلا يمكن التهاون معهم والاعتماد على النوايا الحسنة فقط لأننا حينها سوف نضيع ونخسر الكثير والكثير جدا. ولكن هل الثقة هي ذلك الجانب الأمني المهم فقط؟ ان هناك امورا حياتية كثيرة جدا بحاجة لوجود الثقة كي نقترب من بعضنا على نحو اكثر مصداقية، وكي تكون تعاملاتنا مبنية على الصدق واحترام الكلمة، وكي نكون مجتمعا اكثر تحضرا وانتاجية فالثقة في الآخرين ترقق أحاسيسنا ومشاعرنا وترتقي بذوقنا العام وتهذب من طبعنا، لأن الانسان الذي يثق بالآخرين عادة مايكون واثقا من نفسه وعندما يمنح ثقته للآخرين، فانه يمنحها في حدود كي يعرف من يستحقها ممن لا يستحقها، لان الحياة تجارب ليس بالضرورة ان تكون ايجابية باستمرار مع كل الناس. وانت كانسان صادق مع نفسك وطيب مع الآخرين قد تمنح ثقتك لإنسان آخر فيخون تلك الثقة ولكنك ربما لا تحزن كثيرا لانه ربما كان غريبا ولكن مكمن الحزن والألم ان يخون تلك الثقة اقرب الناس اليك ممن لا تتوقع منه سوى ان يبادلك الثقة ويقدرها فيك ويحترمها منك. ولكن ترى ماذا يقتل الثقة فينا تجاه الآخرين؟ ولماذا نتردد ونحجم عن اعطاء ثقتنا للآخرين حتى لو كانوا أقرباءنا؟ @ انها الوعود الكاذبة المتواصلة منهم، والأيمان المغلظة غير الصادقة. @ انها المظاهر الكذابة والأقنعة المزيفة والمساحيق الرخيصة التي لا تلبث ان تذوب وتزول مع اول قطرة عرق او جهد بسيط او تأثير بيئي عابر لتكتشف الحقيقة المرة المستورة. @ انها المشاهدات والتجارب والمواقف غير المشجعة . @ انها اشياء كثيرة تمر بها يوميا دون ان تشعر بها بشكل مباشر ولكن آثارها السلبية تترك فيك نوعا من الضيق والألم وربما الاحباط مع مرور الوقت. ان هذه الثقة التي نتحدث عنها ليست بالشيء العادي الذي حينما نفتقده لا نشعر به، انها شىء آخر لا يمكن ان نتصور انفسنا من دونه. هذه الثقة هي الأمل الذي كنا نبحث عنه منذ زمن طويل واذا بنا نجده أمامنا، وهي الأمل الذي كنا نتمنى ان نعرفه منذ وقت طويل كي تصبح حياتنا مختلفة باذن الله، وهي الأمل الذي نتمنى ان نحصل عليه ونحتفظ به ونعيش معه لأننا نعتقد من داخلنا اننا اولى الناس به من غيرنا.. هذه الثقة الغالية التي لا يمكن ان نعطيها سوى لذلك الانسان الذي حينما نراه لاول مرة نشعر بأننا جالسون مع انفسنا وحينما نتحدث اليه لاول وهلة نشعر بأننا نحن من يتحدث وليس هو وحينما نصغي اليه وهو يفكر ويحلل نقول (لا) غير معقول!! أيمكن ان يكون هناك "أنا" آخر؟ يالهذه الثقة الجميلة الغالية كيف لها ان تبقى حبيسة في اقفاص قلوبنا؟ والى متى تظل تبحث وتبحث عن توأمها؟ عن ذلك الجزء الذي ينتظرها هو الآخر ويتحين وصولها اليه واقترابها منه؟ الى متى تظل وحيدة بينما هناك من هو مثلها ايضا يبحث عمن يشاركه صدقه وبراءته وطموحاته واحلامه. ان ما يتعبنا مع مرور الوقت هو خوفنا من ان يتبدل مفهومنا لهذا الجزء الجميل في الحياة، ولهذا الشىء الرائع الذي نفتخر به، خوفنا ان يتبدل رأينا للاسوأ لهذه الثقة التي ظللنا ننميها بكل عناية ورعاية ونحافظ عليها سنوات طويلة، لا لشيء سوى لأنها اعز ما نملك ولأننا نريد ان نسعد بها ومن خلالها. ان ما يتعبنا هو احساسنا بأن مقاومتنا للحفاظ على تلك الثقة بدأت تقل يوما بعد يوم لدرجة اننا بدأنا نشعر بأننا نكاد نفتقدها من ايدينا لا لشيء ايضا سوى لان هناك أشخاصا يشوهون تلك الصورة الجميلة التي ظللنا نحلم بها ونتمناها ويهدمون ذلك السور الكبير من الثقة بيننا وبين من نحب ونثق بهم. يحاولون وبكل استماتة زعزعة ثقة الآخرين فينا والتشكيك فيهم من خلال تصرفاتهم اللامسؤولة واللاواعية، بل ويقللون من اهمية وجمال كل شيء يرفع من معنوياتنا ويدخل السعادة في قلوبنا ويجعل للحياة معنى بالنسبة لنا. ولكن هل تسمح لامثال هؤلاء واولئك بأن يفسدوا علينا سعادتنا وينالوا من ثقتنا؟ هل نعطيهم الفرصة لكل ذلك، بينما نصبح نحن في دائرة الشك والخوف والقلق؟ من هؤلاء حتى نفكر فيهم؟ ومن هؤلاء حتى يستحقوا منا مجرد دقائق معدودة يسرقونها منا لافساد متعتنا؟ أليس هناك اشخاص اولى بتلك الثقة؟ اشخاص مازالوا يتوددون الينا ويتقربون منا لا لشيء ايضا بل لانهم يحبوننا ويثقون بنا. لنثق في اقرب الناس الينا.. في والدينا ممن يخافون علينا بصدق ويتمنون ان نكون افضل منهم. لنثق في أولئك الذين يهمهم امر المجتمع وتؤرقهم همومه ويسعون بكل اخلاص لتنميته والرقي به.. اناس كثيرون جدا منهم رجال الامن ورجال الاعمال والتربويون وغيرهم ممن نعتز بهم ونتمنى لهم التوفيق. والاهم من ذلك ان نثق فيمن هم معنا، في داخلنا ممن لم يغادرونا لحظة واحدة، اولئك الذين ينتظرون منا ابتسامة ويستحقون منا التفاتة حقيقية تشعرهم بحق ان ثقتهم بنا في محلها، فهل عرفت من هم؟ انهم حولك، قريبون منك، فقط التفت اليهم وستراهم. همسة حينما تجف عروق الحب بأعماق دواخلنا وهي اغلى ما نملكه وأنفس ما نحتفظ به @@@ وحينما تغرس بداخلنا بذور الشك والريبة فيتبخر كل شيء جميل كنا نحلم به ونتوق اليه ونتمنى الحصول عليه والعيش معه @@@ وحينما تنتزع منا جذور الثقة الجميلة سر حبنا وترابطنا واحوج ما نحتاج اليه في دنيانا @@@ حينما نفتقد كل ذلك واكثر من ذلك ونحن لا حول لنا ولا قوة وحينما يزول كل ما حولنا ونخسر اجمل ما لدينا وحينما يذهب بعيدا الى غير رجعة @@@ حينما يلفظ انفاسه الاخيرة وحينما يموت فلا يبقى منه سوى ان يصبح اطلالا نبكيها صباح مساء ونرثيه في كل مناسبة @@@ حينها ماذا يتبقى لنا في هذه الحياة؟ واي شيء يستحق ان نعلق الآمال عليه؟ او ننتظره؟ او نحبه من اجلها؟ @@@ حينها ألا يحق لنا ان نتساءل ان نستغرب هل هذه حياة أصلا؟ وان كنا موجودين فعلا كما نظن كما نتوهم فأي نوع من الحياة تلك؟ واي نوع من البشر نحن؟ @@@ ترى أمازال هناك متسع من الوقت؟ بقية من ثقة؟ وخيوط من أمل؟ كي نحلم ببراءة؟ دون ان تصادر احلامنا؟ دون ان توءد طموحاتنا؟ @@@ آه أيها الأمل كم اتمنى ان تدرك انه أنت من أريد قلبك من أبحث عنه وثقتك من أتمنى ان تمنحني اياها @@@ وحينها لا تسألني عن مشاعري! لا تطلب مني ردا! لا تنتظر مني تعليقا! لأنك لن تسمع مني سوى "لا أدري!" لأنني فعلا "لا أدري" واظنك عرفت ما أقصد أليس كذلك؟ @@@