نستطيع القول إن القرن الثالث الهجري شهد ميلاد منهج جديد في النقد الأدبي عند العرب، يسقط عرش اللغويين في الساحة النقدية، ويعصف بالسلطان المطلق للقديم في الأحوال جميعاً، ويجعل النص الشعري هو الفيصل في أية موازنة أو مفاضلة. منهج حاول الجاحظ أن يربطه بالموضوعية والاعتدال في الرؤية ووزن المسائل الإبداعية بميزان دقيق محكم، ومعالجتها على حسب طبيعتها ومستوياتها الإبداعية ووحداتها البنائية. غير أن ذلك لم ينسه دوره في مجتمعه، والقضية الحضارية الكبرى التي كانت تشغله، قضية الوجود والبقاء، ليس فيما يتعلق به وحده، لكن فيما يتعلق بالعنصر العربي داخل المجتمع العباسي بعامة. وهو المجال الذي كان يتطلب منه الرد على الخصوم، والذود عن المبادئ والقيم. ومن ثم الوقوف في وجه التيار الذي يعمل على إزاحة معالم الحضارة العربية عن المجتمع العباسي. وحتى في مثل هذه الحالات، كان أبو عثمان حريصاً على إبداء قدر كبير من الموضوعية، والمرونة في إصدار الأحكام ليترك منفذاً للآراء الأخرى، مثلما نلاحظه في مقولته التي قد تفهم على أنها إعلان حرب على المولدين، وتعصب للعرب. والتي جاء فيها: " والقضية التي لا أحتشم فيها، وأهاب الخصومة فيها: أن عامة العرب والأعراب والبدو والحضر من سائر العرب،أشعر من عامة شعراء الأمصار والقرى، من المولدة والنابتة، وليس ذلك بواجب لهم في كل ما قالوا" . فالتفضيل والتقديم يقع هنا بشكل عام، فهو بين العرب بعامة، والمولدين في الجملة، ولا يعني ذلك تقدم العرب على المولدين في كل الأحوال، وإلا ما كان أبو عثمان ختم قوله بجملته الهامة"وليس ذلك بواجب لهم في كل ما قالوا". فهذا يعني إذن، أن المولدين مؤهلون للتقدم على العرب والأعراب في مجالات أجادوا فيها، لكن من حيث الطبع والموهبة، وتوفر الملكة الشعرية. فالجاحظ يقر بتفوق العنصر العربي بعامة. وهذا الموقف أثار اهتمام النقاد المحدثين فسجلوه ولم ينكروا منه شيئاً كما هو جلي في ملاحظة د/ شكري عياد على ذلك: (فقد جعل للعرب أفضيلة على غيرهم من الأمم، ولكنه جعل للمولدين أو الموالي الذين لحقوا بالعرب واكتسبوا لغتهم منزلة تقارب منزلة العرب وأن لم تعادلها،وأجاز أن يتقدم النابغ من هذا الفريق الثاني على معظم أفراد الفريق الأول) . أن موقفه هذا يتفق والفكرة التي قيدها في صدر الجزء الثالث من كتاب البيان والتبيين، في معرض كلامه عن الخطابة عند العرب والأمم الأخرى، حيث عقد مقارنة بين الابداع الأدبي عند الفرس والعرب، ذهب فيها إلى أن ما للفرس في هذا المجال إنما جاءهم بعد اجتهاد ودرس، بينما (( كل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة،ولا إجالة فكر ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف همه إلى الكلام وإلى رجز يوم الخصام، أو جين يمتح على رأس بئر، أو يحدو ببعير، أو عند المقارعة والمنافلة، أو عند صراع، أو في حرب، فما هو إلا أن يصرف همه إلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني أرسالاً، وتنثال عليه الألفاظ انثيالاً... ونحن- أبقاك الله- إذا ادعينا للعرب أصناف البلاغة من القصيد والأرجاز، ومن المنثور والأسجاع، ومن المزدوج ومالا يزدوج، فمعنى العلم أن ذلك لهم شاهد صادق من الديباجة الكريمة، والرونق العجيب، والسبك والنحت الذي لا يستطيع أشعر الناس اليوم، ولا أرفعهم في البيان أن يقول مثل ذلك إلا في اليسير، والنبذ القليل)) . فهذا النص إنما أراد به أبو عثمان إثبات شيء، هو تفوق العرب- من قبيل الطبيعة والملكة - على بقية الأجناس في الإبداع الأدبي ونظم الأشعار، ثم تحديد الدوافع التي كانت تدفع الإنسان العربي قديماً- في الجاهلية - إلى قول الشعر، وهي الدوافع التي حددناها في الجزء الخاص بهذا المجال من الإبداع، وهي: الحرب، الخصام، المتح، الحدو، وعند المفاخرة والمنافرة. وهي - كما ترى- دوافع تشكل جوانب هامة من بيئة العربي القديم. وإذا كان الجاحظ قد أخذه حماسه بعيداً- شيئاً ما- عن الموضوعية والرزانة التي لاحظناها على مواقفه النقدية في مواضع أخرى، فانفعل وهو يرد ، فإنه لم يمنع النبوغ في مجالات الإبداع عن الأعراق الأخرى، ولم ينكر تقدم المولدين في جوانب منها. والجاحظ بهذا ينأى بأحكامه النقدية عن دائرتي التعصب والتقليد ليحدد لنفسه نهجاً اتسم بالاستقلالية والتحرر، وأتاح لأحكامه النقدية الانطلاق من قاعدة القناعة الفنية، بناء على طبيعة النص الشعري وبعيداً عن المؤثرات الأخرى والاهواء الذاتية. الموازنات بين النصوص: لعل أكثر ما استوقف الجاحظ في باب الموازنات، نظم شاعرين أو أكثر أشعاراً تتناول معنى واحداً، وهو ما وفر له مجالاً للنظر في النصوص الشعرية، وفحص وحداتها وعناصرها وتحديد مواطن الجودة فيها، وكشف العيوب والأخطاء التي من شأنها تأخير نص على آخر، وهو ما يتفق والمنهج الجمالي الذي اتبعه في مقارباته مع الشعر بعامة. حيث راح يقيد أحكامه النقدية بالنص الإبداعي الذي حرص على التوقف عنده بعيداً عن شخص مبدعه، أو منزلته، أو عصره، أو حتى إبداعه الفني الآخر . وهو ما دفعه إلى الإحجام عن ذكر اسم الشاعر في كثير من النماذج الشعرية والشواهد التي قدمها في مسائل عديدة . فيقول مثلا ( وقال الآخر أو : فقال الشاعر) وهو سلوك منه يرمي إلى إيصال إشارة إلى المتلقي مفادها أن شخص الشاعرلا يهم بقدر ما يهم شعره . فإذا كان هذا الأخير جيداً، كان جديرا بالتقديم والثناء أما إذا كان رديئا فلن يرفع من قيمته اسم قائله، أو حسبه، أو سلطانه ، أو عصره . ومن اصدق النماذج على ما تقدم موازنة عقدها بين بيت لعمرو بن كلثوم وآخر لبشار بن برد جاء فيها : ( يقول بشار: كأن مثار النفع فوق رؤوسنا وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه وقال عمرو بن كلثوم : تبني سنابكم من فوق رؤوسهم سقفا كواكبه البيض المباثير وهذا المعنى قد غلب عليه بشار وتتعدد النصوص النقدية في كتابات الجاحظ التي تتضمن أحكاما حول نصوص شعرية لشعراء عرب، وأخرى لشعراء مولدين من أصول أعجمية، بل اكثر من ذلك، هم خصوم الداء لأبي عثمان، ضمن الصراع العنيف الذي كان طرفا فيه بقلمه وكلمته . وعلى الرغم من إشارته إلى ضلالاتهم ومروقهم في مواضع شتى إلا انه في تعامله مع نصوصهم الإبداعية كان منصفا إلى ابعد حدود الإنصاف، حيث كان لا يكتفي بالنص على وجودة أشعارهم في مواطن الجودة، بل كان يتعدى ذلك المقدار حيث لم يكن يتردد في تقديمهم على رموز الشعر العربي القديم ورؤوسه، كما مر بنا في النموذج السابق، وكما سيتجلى فيما سنقدمه من نصوص نقدية أخرى، لعل من أكثرها دلالة على ما زعمنا هذه الحكومة التي تناولت شعرا لأحد رواد الشعر العربي قاطبة : مهلهل بن ربيعة، وأحد اعدى أعداء أبي عثمان في الصراع الحضاري وأحد رموز الشعوبية الكبار : الحسن بن هانيء والتي جاء فيها : وقال الآخر ( يعني مهلهل ) : أودى الخيار من المعاشر كلهم واستب بعدك يا كليب المجلس وتنازعوا في كل أمر عظيمة لو قد تكون شهدتهم لم ينبسوا وأبيات أبي نواس على انه مولد شاطر اشعر من شعر مهلهل في إطراق الناس في مجلس كليب وهو قوله : وما خبزه الا كليب بن وائل ليالي يحمي عزه منبت البقل وإذ هو لا يستب خصمان عنده ولا القول مرفوع بجد ولا هزل فالحكم صريح، حاسم لا يحتمل الجدل أو التأويل . فالموازنة بين نصين يعالجان معنى واحداً رأى أبو عثمان ما كان منهما للشاعر المولد اشعر مما كان للعربي القديم، دون اعتبار لأي عامل آخر . وحتى لا يتوهم المتلقي أن أبا عثمان كان يقع تحت وطأة نزعة الانتصار لأشعار المولدين وتقديمها في كل الأحوال، فانه شفع حكمه في الموازنة الأولى التي قدم فيها بيت بشار بقوله : (وهذا المعنى قد غلب عليه بشار، كما غلب عنترة على قوله: فترى الذباب بها يغني وحده هزجا كفعل الشارب المترنم غردا يحك ذراعه بذراعه فعل المكب على الزناد الأجدم فلو أن امرأ القيس عرض في هذا المعنى لعنترة لافتضح ) وكان قد قدم للبيتين مع ثالث في موضع آخر تناول فيه تنازع الشعراء معنى واحدا بقوله : ( إلا ما كان من عنترة في صفة الذباب، فانه وصفه فأجاد صفته فتحامى معناه جميع الشعراء فلم يعرض له أحد منهم .