من القضايا النقدية التي نالت حظا وافرا من اهتمامات أبي عثمان الجاحظ، وشغلت حيزا من كتاباته، قضية الموازنة بين نصوص الشعر، والمفاضلة بين مبدعيها، المفضية بالضرورة الى تحديد مراتبهم وطبقاتهم. وهو ان لم يخص هذه القضية بمؤلف، كما فعل غيره من القدامى (ابن سلام، ابن المعتز، الآمدي.. إلخ) فانه لم يتأخر في إصدار أحكامه وإبداء آرائه، والتعبير عن ملاحظاته، وفق المنهج الذي اختاره، وطريقته التي ميزها تفرق مادته العلمي على صفحات كتبه ورسائله، وتنوعها من حيث طبيعتها وموضوعاتها. فقد ورد بعضها في شكل إشارات مبهمة يصعب معها تحديد الموقف النقدي بدقة، وبعضها الآخر في شكل ملاحظات عابرة لا تفي بحاجة الباحث عن خيوط النظرية النقدية. بينما جاء بعضها الثالث في شكل نقل أحكام غيره، وبخاصة أساتذته من أقطاب اللغويين وعلماء الرواية (أبو عمرو ابن العلاء، يونس بن حبيب، الأصمعي، ابو عمر الشيباني، ابو عبيدة.. إلخ). وأكثر ما كان يفعل ذلك عندما يكون حكم أحدهم مبنيا على ميزات النص الشعري. بينما كان اعتماده على شيوخه من رجال الاعتزال أقل أهمية في هذا المجال، حيث لم ينقل عنهم كثيرا من النصوص النقدية، اذا استثنينا صحيفة بشر بن المعتمر التي وردت في "البيان والتبيين"، والتي لم يكن مصنفها يرمي الى وضع قواعد واصدار أحكام نقدية تخص الشعر، بل أراد لها ان تكون عامة شاملة، تعالج صنوف الإبداع الفني في مجال الأدب بعامة . وموقف أبي عثمان من أحكام شيوخه في اللغة والرواية لا يعني انه حبس نفسه في تلك الدائرة الضيقة التي حدد محيطها أولئك الأعلام، كما ان بروز نجوم في سماء النقد الأدبي على عهده، كابن سلام مثلا لم يحجب رؤيته بفعل الانبهار، ولم يسقطه في مستنقع التقليد، بل على نقيض ذلك، ربما زاده إرادة وعزما على المضي بحرية واستقلالية أكبر في النهج الذي اتخذه لنفسه، والذي اتسم باتساع الأفق، وشمولية الرؤية، وثبات الأسس. ليكون بذلك مجددا حداثيا، استطاع ان يضع قواعد قامت على تعامله مع مسائل الموازنة بين النصوص الشعرية، والمفاضلة بين مبدعيها، وترتيبهم ثم تحديد درجاتهم. بغرض البحث عن الجودة أينما كانت ومن أي كانت، بعيدا عن مؤثرات العصبية والنسب والمذهب وذيوع الصيت، ليكون المعيار الفني هو الفيصل الوحيد والأوحد. وهو ما تجلى في مقارباته التي عالجت هذه المسائل. الموازنات والمفاضلات اهتم الجاحظ بعقد الموازنات بين الشعراء دون ان يطغى ذلك على مادته النقدية ودون ان يبلغ فيه ما بلغه الآمدي من بعده مثلا فقد استوقفه نظم شاعرين او أكثر في معنى واحد، ودعاه ذلك الى الاحتكام الى المعيار الجمالي كما أسلفنا من أجل الحكم لهذا النص او ذاك، دون اعتبار للعوامل الأخرى. فالشاعر الذي يجيد أداء الفكرة في قالب فني جميل، او يرتفع بالمعنى الى مستويات عليا، فيخرجه في صورة تعكسه على حال أحسن مما هو عليه في الواقع، ثم يكسوه من اللفظ ما عذب وسهل، هو الشاعر الأجدر بالتقدم والتفوق. وقد استدعى منهج الجاحظ في تقويم النصوص الشعرية النظر في عناصر النص ووحداته، وهو ما أفرز أحكاما نقدية لا تخرج عن دائرة تلك العناصر والوحدات، حيث كانت تخص معنى او صورة او بيتا، او وحدة أخرى من وحدات الشعر. وهو بذلك من دون شك يخرج عن التقاليد النقدية التي أرساها أعلام المدرسة اللغوية، كما ان أحكامه تختلف اختلافا بيّنا عن أحكام غيره من نقاد القرنين الثاني والثالث، التي كانت في معظمها أحكام مطلقة تجعل من فلان "أشعر الناس عند مصر كذا". كما هو مجسد في الخبر الذي نقله ابن سلام عن يونس بن حبيب. قال: "أخبرني يونس بن حبيب: ان علماء البصرة كانوا يقدمون امرأ القيس بن حجر، وأهل الكوفة كانوا يقدمون الأعشى، وان أهل الحجاز والبادية كانوا يقدمون زهير والنابغة" . ومن فلان "أشعر الناس اذا كان في حال كذا" كما هو في خبر آخر ليونس بن حبيب، نقله ابن سلام ثانية جاء فيه: "أشعر الناس امرؤ القيس إذا ركب، وزهير اذا رغب، والنابغة اذا رهب، والأعشى اذا طرب" وخروجه عن قواعد شيوخه من علماء اللغة والرواية أدى به الى اتخاذ مواقف في حقهم، فيها قدر غير قليل من القسوة، حيث راح يعيب عليهم نظرتهم الى المولدين، ورماهم بجهل ما يروون، وذلك عندما قال: "وقد رأيت أناسا منهم يبهرجون أشعار المولدين ويسقطون من رواها. ولم أر ذلك قط إلا في راوية للشعر غير بصير بجوهر ما يروى ولو كان له بصر لعرف موضع الجيد ممن كان، وفي أي زمان كان" . فالفيصل عنده إذن، هو عنصر الجودة، لا يهم مصدر الشعر مثلما لايهم زمنه، فالجمال الفني هو مدار الأمر وعين القضية، حتى لو تجسد ذلك في أشعار ألد الأعداء. أما من يسقط شعرا بسبب عرق صاحبه، او مذهبه، او زمنه. فهؤ لا يبصر بجوهر ذاك الشعر، ولا علم له بحقيقة ذاك الفن. وهو ما نجده في ملاحظة احد النقاد المعاصرين حول هذه المسألة. يقول دشكري عياد عن موقف أبي عثمان من رؤية شيوخه من علماء اللغة والرواية: "والجاحظ ينكر على بعض الرواة المتقدمين انهم كانوا يسقطون أشعار المولدين جملة" . ورؤية أبي عثمان هاته يؤكدها العديد من مواقفه حيال نصوص من إبداع شعراء مولدين كانوا خصوما له في الصراع الحضاري الذي شهده المجتمع العباسي، فقد كانوا رؤوسا من رؤوس الشعوبية، وكان هو من أبرز خصومها. ولعل موقفه من طرديات أبي نواس التي فضلها على ما للأعراب في الموضوع نفسه يعد أصدق نموذج على رؤيته النقدية. قال في هذا الصدد: "وأنا كتبت لك رجزه في هذا الباب، لأنه كان عالما راوية، وكان قد لعب بالكلاب زمانا، وعرف منها ما لا تعرفه الأعراب، وذلك موجود في شعره، وصفات الكلاب مستقصاة في أراجيزه، هذا مع جودة الطبع وجودة السبك، والحذق والصنعة. وان تأملت شعره فضلته إلا ان تعترض عليك فيه العصبية، او ترى ان أهل البدو أبدا أشعر، وان المولدين لا يقاربونهم في شيء. فان اعترض هذا الباب عليك فانك لا تبصر الحق من الباطل ما دمت مغلوبا" . ان هذا النص الذي تضمن موقف أبي عثمان الصريح من الأسس التي يجب ان تبنى عليها الأحكام النقدية، والنهج الذي يجب على أصحابها اتباعه، علاوة على كونها دليلا قويا على موضوعية الجاحظ، وتقيده بالمعيار الفني كعامل لتقييم الأعمال الفنية، يثير مسائل على قدر كبير من الأهمية نجملها فيما يلي: 1 هي تحديد العناصر الإبداعية التي تشكل القاعدة الفنية التي يقوم عليها الحكم النقدي وهي كما عند أبي عثمان. أ الثقافة الشعرية: فمن كان عالما ببيئات الشعر، راوية لنصوص المبدعين ليس كمن لا علم له بذلك. ب التجربة: فمن خبر الأمر زمانا، وعايشه، تكون احاطته بموضوعه أشمل وقوله فيه أصدق وأبين. ج توافر عناصر الإبداع الفني في شخصية الشاعر، كالحذق والطبع والمهارة في الصنعة. 2 يجب ان تكون القاعدة التي تقوم عليها المفاضلة قاعدة فنية خالصة، بحيث لا تتعدى حدود النص الشعري، وأي حكم يدخل عوامل أخرى في دائرة التقويم، كالعرق والزمان والمكان على سبيل العصبية او الذاتية يسقط في أعماق الزلل والخطأ، ويكون برهانا على ضلال صاحبه، ودليلا على عجزه عن التفرقة بين الحق والباطل. 3 يشير الجاحظ في الجزء الأخير من مقولته الى علماء اللغة والرواية الذين كانوا يرون "ان أهل البدو، أبدا أشعر" وان المولدين مهما بلغوه في فن الشعر هم أقل درجة، وأصغر شأنا. وفي اشارته هاته معالم موقف رافض لرؤية أولئك العلماء ناقم عليها، بل أكثر من ذلك فانه يصرح بأن من يفعل ذلك فانما يفعله على سبيل العصبية، لانه لا يفرق بين الحق والباطل. والنتيجة انه غير مؤهل لاصدار أحكام في أمور لا يبصر من حقائقها قليلا ولا كثيرا. موقف أبي عثمان من شيوخه اللغويين يتكرر في كثير من النصوص، وعلى الرغم من تذوقه الشعر القديم، واستعانته به كشواهد في العديد من المسائل العلمية والاجتماعية والتاريخية، فانه لم يقدمه لقدم مبدعيه، ولم يبد تحيزا لعصر من العصور او مرحلة من المراحل. يقول د/ محمد احمد العزب عن موقف أبي عثمان هذا: "فقد بدا هنا مركزا بشكل أساسي على القيمة الفنية وحدها، رافضا ان يعطي براءة التفوق للقديم على الحديث لمجرد قدمه ولا للحديث على القديم لمجرد حداثته، وانما هو معني بتأمل محض الجمال في الفن.. ومهما يكن من شيء فقد رفض الجاحظ ان يرفع القديم على الحديث لمجرد ان هذا قديم وهذا حديث، او ان هذا الاعرابي وهذا لمولد.. ان نظر الجاحظ مسلط هنا على القيمة الفنية وحدها، وليس على الإطار الزماني الحاضن لهذه القيمة قديما كان او حديثا. وهذا نظر نقدي كان يمهد لميلاد اتجاه رشيد في فهم مثل هذه الظواهر الفنية". رؤية الجاحظ هاته مهدت حقا لميلاد اتجاه نقدي أكثر موضوعية، وأكثر عقلانية من الاتجاهات السابقة. ولم يتأخر ظهور مثل هذا الاتجاه كثيرا، اذ سرعان ما اعتنق تلاميذ أبي عثمان مذهبه، سائرين على دربه النقدي. فهذا ابن قتيبة الذي أخذ عنه الكثير، وعارضه في الكثير، يقتفي أثر استاذه، ويعتنق مذهبه، وذلك عندما يصرح قائلا: "ولم يقصر الله العلم والشعر والبلاغة على زمن دون زمن، ولا خص به قوما دون قوم، بل جعل ذلك مشتركا مقسما بين عباده في كل دهر، وجعل كل قديم حديثا في عصره، وكل شرف خارجية في أوله، فقد كان جرير والفرزدق والأخطل وأمثالهم يعدون محدثين. وكان ابو عمر وابن العلاء يقول: لقد كثر هذا المحدث وحسن حتى قد هممت بروايته. ثم صار هؤلاء قدماء عندنا ببعد العهد منهم، وكذلك يكون بعدهم لمن بعدنا كالخريمي والعتابي والحسن بن هانىء وأشباههم. فكل من أتى بحسن من قول او فعل ذكرناه وأثنينا عليه، ولم يضعه عندنا تأخر قائله او فاعله، ولا حداثة سنه كما ان الرديء اذا ورد علينا للمتقدم او الشريف لم يرفعه عندنا شرف صاحبه ولا تقدمه" . فبصمات الجاحظ واضحة في نص ابن قتيبة، وسبق الأول الى ارساء قواعد هذا المنهج ليس محل جدل، اذ هو جلى في نظر الدارسين، والنقاد. فهذا د. شكري عياد يقرر في هذا الشأن قائلا: "وتبنى كبار علماء اللغة والأدب في القرن الثالث موقف الجاحظ، فقبل المبرد، وثعلب ، وابن قتيبة شعر المولدين". وهذا د.محمد زغلول سلام يقول في السياق نفسه: "وقد ذهب الجاحظ قبل ابن قتيبة الى استحسان آراء بعض المحدثين في الشعر، واستهجان آراء اللغويين المغالين، لأنهم لا يحكمون على الشعر بما فيه من جمال الصنعة واستواء الأسلوب، ولكنهم يحكمون عليه من نواح مختلفة بعيدة عن حقيقته الفنية مثل اللغة، او ما يحمله من خبر او شاهد نحوي او لغوي" . واذا كان الدكتور سلام وجد في منهج الجاحظ استحسان آراء بعض المحدثين، واستهجان آراء اللغويين المغالين، فحقيقة آثاره في هذا المجال تكشف عن استحسانه نصوص بعض المحدثين المولدين، وكشف ما بها من جمال فني، وجودة في الصنعة. فهو لم يكتف بمخالفة مذهب اللغويين المغالين في تقديس القديم، كأبي عمرو بن العلاء وابن أبي اسحاق. بل ذهب في تيار معاكس، لانه لم يشأ ان ينسى واقعه، ويتغاضى عن المتغيرات التي عرفها المجتمع الإسلامي فيما يزيد على قرنين من الزمن، وما حدث خلال ذلك من تطورات حضارية وثقافية ولغوية، غيرت كثيرا من معالم الحياة العربية، وجعلت الإنسان العربي يفتح عينيه فيرى أشياء لم يكن يتخيلها أسلافه منذ قرنين او ثلاثة، بحيث أصبح يعيش في الدور والقصور وسط عمران واسع، وحدائق غناء، وعيون جاريات، تحيط به أجمل الجواري، يرتدي أنعم الثياب ويتمتع بألذ خيرات الدنيا. فأين هو إذن من الجاهلين في فيافيهم وقفارهم بأحناشها ووحوشها، وقحطها وشدة بيئتها؟ أليس من الطبيعي ان يتغير الذوق، وتتطور وسائل التعبير عنه، لتظهر رؤى جديدة وطرائق مستحدثة تتناسب مع الحياة الجديدة؟ ان ذلك لم يكن وليد الصدفة، او نتيجة نمو في قدرات الانسان العربي الفكرية والفنية، بل كان وليد تفاعل عناصر ثقافية، واجتماعية أفرزها الصراع الذي دار بين الأطراف المتنافسة على فرض الأنماط الحضارية، والتقاليد الثقافية التي ألفتها وآمنت بجدواها، وهو أمر لم يكن بعيدا عن أبي عثمان، كما لاحظه الدكتور احسان عباس، حيث قال عن موقف الجاحظ من ذلك: "أما هو فانه لا يستطيع ان يغض الطرف عن ذلك الصراع بين القديم والمحدث (أي على التغيير الذي طرأ على أذواق جيلين) ولا يستطيع ان ينسى كيف انه يعاشر جيلا يستمد ثقافته من "كليلة ودمنة" وعهد أردشير ويعرض عن الشعر العربي. ولهذا كان موقف الجاحظ النقدي شيئا جديدا بالنسبة لمن تقدمه". اذن نستطيع القول ان القرن الثالث الهجري شهد ميلاد منهج جديد في النقد الأدبي عند العرب، يسقط عرش اللغويين في الساحة النقدية، ويعصف بالسلطان المطلق للقديم في الأحوال جميعا، ويجعل النص الشعري هو الفيصل في أية موازنة او مفاضلة. منهج حاول الجاحظ ان يربطه بالموضوعية والاعتدال في الرؤية ووزن المسائل الإبداعية بميزان دقيق محكم، ومعالجتها على حسب طبيعتها ومستوياتها الإبداعية ووحداتها البنائية. غير ان ذلك لم ينسه دوره في مجتمعه، والقضية الحضارية الكبرى التي كانت تشغله، قضية الوجود والبقاء، ليس فيما يتعلق به وحده، لكن فيما يتعلق بالعنصر العربي داخل المجتمع العباسي بعامة. وهو المجال الذي كان يتطلب منه الرد على الخصوم، والذود عن المبادىء والقيم. ومن ثم الوقوف في وجه التيار الذي يعمل على إزاحة معالم الحضارة العربية عن المجتمع العباسي. وحتى في مثل هذه الحالات، كان ابو عثمان حريصا على إبداء قدر كبير من الموضوعية، والمرونة في اصدار الأحكام ليترك منفذا للآراء الأخرى، مثلما نلاحظه في مقولته التي قد تفهم على انها إعلان حرب على المولدين، وتعصب للعرب. والتي جاء فيها: "والقضية التي لا أحتشم فيها، وأهاب الخصومة فيها: ان عامة العرب والأعراب والبدو والحضر من سائر العرب، أشعر من عامة شعراء الأمصار والقرى، من المولدة والنابتة. وليس ذلك بواجب لهم في كل ما قالوا" . فالتفضيل والتقديم يقع هنا بشكل عام، فهو بين العرب بعامة، والمولدين في الجملة، ولا يعني ذلك تقدم العرب على المولدين في كل الأحوال، وإلا ما كان ابو عثمان ختم قوله بجملته الهامة "وليس ذلك بواجب لهم في كل ما قالوا". فهذا يعني اذن، ان المولدين مؤهلون للتقدم على العرب والاعراب في مجالات أجادوا فيها، لكن من حيث الطبع والموهبة، وتوافر الملكة الشعرية. فالجاحظ يقر بتفوق العنصر العربي بعامة. وهذا الموقف أثار اهتمام النقاد المحدثين فسجلوه ولم ينكروا منه شيئا كما هو جلى في ملاحظة د. شكري عياد على ذلك: (فقد جعل للعرب أفضلية على غيرهم من الأمم، ولكنه جعل للمولدين او الموالي الذين لحقوا بالعرب واكتسبوا لغتهم منزلة تقارب منزلة العرب وان لم تعادلها، وأجاز ان يتقدم النابغ من هذا الفريق الثاني على معظم أفراد الفريق الأول) . ان موقفه هذا يتفق والفكرة التي قيدها في صدر الجزء الثالث من كتاب "البيان والتبيين" في معرض كلامه عن الخطابة عند العرب والأمم الأخرى، حيث عقد مقارنة بين الإبداع الأدبي عند الفرس والعرب، ذهب فيها الى ان ما للفرس في هذا المجال انما جاءهم بعد اجتهاد ودرس، بينما "كل شيء للعرب فانما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة، ولا إجالة فكر ولا استعانة، وانما هو ان يصرف وهمه الى الكلام والى رجز يوم الخصام، او حين يمتح على رأس بئر، او يحدو ببعير، او عند المقارعة والمناقلة، او عند صراع، او في حرب، فما هو إلا ان يصرف وهمه الى جملة المذهب، والى العمود الذي اليه يقصد، فتأتيه المعاني ارسالا، وتنثال عليه الألفاظ انثيالا.. ونحن أبقاك الله اذا ادعينا للعرب أصناف البلاغة من القصيد والأرجاز، ومن المنثور والاسجاع، ومن المزدوج، وما لا يزدوج، فمعنا العلم ان ذلك لهم شاهد صادق من الديباجة الكريمة، والرونق العجيب، والسبك والنحت الذي لا يستطيع أشعر الناس اليوم، ولا أرفعهم في البيان ان يقول مثل ذلك إلا في اليسير، والنبذ القليل" . فهذا النص انما أراد به ابو عثمان إثبات شيء هو تفوق العرب من قبيل الطبيعة والملكة على بقية الأجناس في الإبداع الأدبي ونظم الأشعار، ثم تحديد الدوافع التي كانت تدفع الإنسان العربي قديما في الجاهلية الى قول الشعر، وهي الدوافع التي حددناها في الجزء الخاص بهذا المجال من الإبداع، وهي: الحرب، الخصام، المتح، الحدو، وعند المفاخرة والمنافرة. وهي كما ترى دوافع تشكل جوانب هامة من بيئة العربي القديم. واذا كان الجاحظ قد أخذه حماسه بعيدا شيئا ما عن الموضوعية والرزانة التي لاحظناها على مواقفه النقدية في مواضع أخرى، فانفعل وهو يرد على الشعوبية، فانه لم يمنع النبوغ في مجالات الإبداع عن الأعراق الأخرى، ولم ينكر تقدم المولدين في جوانب منها. والجاحظ بهذا ينأى بأحكامه النقدية عن دائرتي التعصب والتقليد ليحدد لنفسه نهجا اتسم بالاستقلالية والتحرر، وأتاح لأحكامه النقدية الانطلاق من قاعدة القناعة الفنية، بناء على طبيعة النص الشعري وبعيدا عن المؤثرات الأخرى والأهواء الذاتية. وهو ما جعله يضع بشار بن برد على رأس طبقته ومعاصريه، على الرغم من الخلاف الفكري، والصراع الحضاري الذي كان دائرا بين فريقي الشاعر والناقد، وعلى الرغم من مواقف بشار المارقة ومعاداته لشيخ أبي عثمان في الاعتزال واصل بن عطاء وهجائه في أكثر من موضع مما جعل هذا الأخير يهدر دمه. على الرغم من هذا كله، لم يتردد ابو عثمان في رفع بشار الى رئاسة طبقته ملتزما في ذلك بالمعيار الفني وحده، كما يلاحظ ذلك الدكتور محمد بن عبدالغني المصري الذي يصرح قائلا في هذا الشأن. "كان أساس الحكم عنده في مجال الشعر هو المقياس الفني والدليل على هذا اعتراف الجاحظ لمجموعة من الشعوبيين والمارقين وأصحاب الأهواء، من الشعراء المتأخرين بالطبع في ميدان الشعر" (أنظر حديثه عن بشار، واعترافه به وهو شعوبي متطرف، والسيد الحميري وهو من الغالية الكيسانية التي تؤمن بألوهية علي كرم الله وجهه، وبأبي العتاهية وهو دهري معروف بانكاره المبادىء الإسلامية، وابن عيينة، وأبان اللاحقي من معاصري أبي نواس ومقلديه في فسقه). كذلك تتجلى موضوعية الجاحظ واتخاذه المجال الفني الميدان الأوحد لأحكامه، في موقفه من الكميت (شيعي) والطرماح (خارجي) وهما عدوان للجاحظ في المذهب، ومع هذا يقدمهما لجمعهما نواحي الإبداع في الفن الأدبي من شعر ورجز وخطابة. فمواقفه من هؤلاء الشعراء على خلافه الفكري والمذهبي معهم ترفع كل التباس قد يقع فيه باحث، وتمنع أي ادعاء يرمي أبا عثمان بالتعصب للقديم او للعرب على حساب الآخرين. وسيتجلى مذهبه النقدي أكثر عندما نتوقف مع موازنات عقدها بين نصوص شعرية تناولت معنى واحدا، او نظمت حول فكرة واحدة، او جمع بينها عنصر مشترك من عناصر الشعر. الموازنات بين النصوص: لعل أكثر ما استوقف الجاحظ في باب الموازنات، نظم شاعرين او أكثر أشعارا تتناول معنى واحدا، وهو ما وفر له مجالا للنظر في النصوص الشعرية، وفحص وحداتها وعناصرها وتحديد مواطن الجودة فيها، وكشف العيوب والأخطاء التي من شأنها تأخير نص على آخر، وهو ما يتفق والمنهج الجمالي الذي اتبعه في مقارباته مع الشعر بعامة. حيث راح يقيد أحكامه النقدية بالنص الإبداعي الذي حرص على التوقف عنده بعيدا عن شخص مبدعه، او منزلته، او عصره،