رغم حسن النية الظاهر في اقتراح دعوة أطفال فلسطين لقضاء عطلة الصيف في بعض الدول العربية، إلا أنني أجده من البساطة بحيث يبدو وكأنه محاولة للتخفيف من آلام إنسان مذبوح بإعطائه قطعة من الحلوى. هو ليس كافياً ولا شافياً، بل احسبه لا يرقى إلى مستوى الحدث من أي باب. ذلك أن هناك أبواباً أخرى عديدة يمكن أن يطرقها من كان جاداً في التعبير عن التضامن او تقديم العون لدعم الصمود الفلسطيني. الذي هو من ضرورات استمرار المقاومة. وأرجو ألا أكون بحاجة لان اشرح لماذا يجب أن تستمر المقاومة! (1) مما نشرته الصحف فان ذلك الاقتراح قدم في شهر مايو الماضي إلى منظمة العمل العربية، ولا اعرف أن كان قد اخذ به أم لا. وقد تزامن نشره مع أخبار وتقارير أخرى تناقلتها وسائل الإعلام حول محنة عشر جامعات فلسطينية تضم 60 ألف طالب خربت أبنيتها ودمرت معاملها، وحول عجز 4200 طالب في جامعة القدس عن تسديد الرسوم، ورفع الرسوم التي يدفعها الطلاب الوافدون سنوياً إلى الجامعات اللبنانية، بحيث أصبحت 600 دولار بدلاً من مائة، الأمر الذي فهم أن المقصود به هم الطلاب الفلسطينيون بالدرجة الأولى عددهم 2100 طالب وطالبة الذين سيحرمهم هذا الرفع المفاجئ من مواصلة تعليمهم بالجامعات اللبنانية. وحسبما ذكرت بعض الصحف فان تلك الخطوة اتخذت ضمن إجراءات أخرى أرادت بها الحكومة اللبنانية أن تحوط للحيلولة دون توطين الفلسطينيين هناك. حدث ذلك بينما سجلت أخبار أخرى أن 75% من الفلسطينيين اصبحوا يعيشون تحت حد الفقر، بالضفة والقطاع، وان وكالة غوث اللاجئين تركت مهمتها الأصلية، وأصبحت معنية بإنقاذ مليون و 800 ألف فلسطيني، وإعانتهم على مواصلة الحياة. بعدما توالت إجراءات الحصار والتجويع التي فرضتها السلطات الإسرائيلية. وما أصاب المباني والمنشآت بالأرض المحتلة، في مجالي الخدمات والمرافق بوجه أخص. لم يكن اقل فداحة، حيث دمرت 80% من الأبنية والشبكات التي تقدم تلك الخدمات. وجدت أن رد الفعل في الأردن كان اكثر نضجاً وفعالية بصورة نسبية. فقد قررت النقابات المهنية هناك تقديم مساعدات مالية للطلاب الفلسطينيين في الجامعات الأردنية، الذين انقطعت مواردهم بسبب الاجتياح الإسرائيلي. كما طالب مجلس النقباء الحكومة الأردنية بإعفاء الطلبة الفلسطينيين من الرسوم في الجامعات الرسمية. في الوقت نفسه تعهدت النقابات المهنية الكبرى بتقديم مساعدات وفقاً لتخصصاتها، بحيث ترعى نقابة المهندسين دارسي الهندسة، ونقابة المحامين دارسي القانون ونقابة طب الأسنان طلاب ذلك الفرع. وهكذا. على صعيد آخر، فقد تم الإعلان عن توأمة مدينتي الزرقاء الأردنية وجنين الفلسطينية في حفل خاص أقيم في بلدية الزرقاء يوم 15/6 ، وبمقتضى ذلك الاتفاق فان تعاوناً وثيقاً في مختلف المجالات يفترض أن يقوم بين البلديتين، خصوصاً أن جنين تعتبر مركزاً تسويقياً وتجارياً مهماً لأكثر من نصف مليون فلسطيني داخل الخط الأخضر، وتمثل سلة الغذاء الفلسطيني. (2) أكثر ما أخشاه أن تكون همتنا في دعم الصمود الفلسطيني قد فترت، بعد السكوت النسبي لفعل المقاومة وما بدا فوق السطح من توقف او تراجع للانتفاضة. ولا أتمنى أن تقع مذبحة أخرى لكي توقظ المشاعر وتجدد رياح الغضب، وتستدعي إلى ساحة المواجهة الذين شغلوا بأمورهم وانصرفوا عن أداء واجب الوقت إزاء قضية المستقبل في العالم العربي. واضع اكثر من خط تحت الجملة الأخيرة مذكراً بأن ما جرى في الأرض المحتلة من اجتياح وحشي لا يستهدف تركيع او استئصال الفلسطينيين وحدهم. وإنما هو في حقيقة الأمر - أكرر - حلقة في مسلسل إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، الذي نحن جزء منه. وهو ما يعني انه لم يعد بوسع أحد أن ينام مطمئناً بمظنة انه بعيد عن دائرة الخطر، وانه ناج من الطوفان، وفي مأمن منه. ذلك وهم كبير مسكوت عليه للأسف، من قبل أولئك الذين يؤثرون دفن رؤوسهم في الرمال، بحيث لا تبلغ أبصارهم ومداركهم ما يبصره ويدركه أهل النظر. وهم بذلك يخدعون أنفسهم ويخدعون الناس، ويلهونهم عن مختلف المؤشرات والحقائق التي تلوح في الأفق متحدثة تارة عن إعادة إنتاج مشروع هتلر للسلام الذي طرحه الزعيم النازي عام 1941 وتحدث فيه عن أوروبا الجديدة ، وهو عنوان يستدعي إلى الذاكرة مباشرة لافتة الشرق الأوسط الجديد د. حسن نافعة، الأهرام 27/4 . أو تلك التي تدق الأجراس لافتة الانتباه إلى حزب الإمبراطورية الأمريكية الذي تقوى شوكته في واشنطن يوماً بعد يوم، ويهدف بين ما يهدف إلى وضع العالم العربي تحت الوصاية او الانتداب الأمريكي د. خالد عبد الله - القدس العربي 1/7 . فهذا العالم في نظر التيار الامريكي الجديد بمثابة منطقة رخوة يسهل النفاذ إليها وتحقيق الانتصارات فيها دون مقاومة د. محمد السيد سعيد - الأهرام 8/7 . الأمر جد إذن ولا هزل فيه. وأولئك الذين يدفنون رؤوسهم في الرمال لا يخدعون أنفسهم وغيرهم فحسب، وإنما هم يرتكبون جرماً افدح. لأنهم يغرون الذين يتطلعون إلى افتراس الأمة وإعادة رسم خرائطها بالتقدم نحو أهدافهم، مطمئنين إلى انهم فائزون لا ريب بالغنيمة التي يريدون. ذلك انه في كل المعارك هناك مخططات الاجتياح وهناك حالة القابلية للاجتياح، والأولى لا تحقق مرادها إلا اذا توفرت الثانية. اعني أن أمثال تلك المخططات ليست قدراً مكتوباً، ولكنها عنصر واحد في المعركة، يمكن أن ينجح او يفشل بمقدار ما يتوفر له من أجواء وملابسات القابلية للاجتياح لدى الطرف الآخر. الذي ألح عليه هنا أن يستمر الاستنفار والدعم لتعزيز الصمود والمقاومة. ولست بصدد الحديث عن مسئولية الحكومات والأنظمة، وإنما يهمني في الوقت الراهن الدور الذي يقوم به المجتمع بأفراده ومؤسساته الأهلية. ذلك انه بوسع كل فرد أن يفعل الكثير، كما أن المؤسسات الأهلية تستطيع أن تفعل ما هو اكثر، لكن الثقافة السائدة لا تلقي بالاً لمثل تلك الفعاليات للأسف، تأثراً فيما يبدو بمرحلة تأميم كل شيء، التي تراجع فيها دور المجتمع حتى غيب تماماً. (3) في الذكرى الرابعة والخمسين لاحتلال فلسطين 16 مايو الماضي نشر على موقع اسرائيل من الداخل ، على شبكة الإنترنت، تقرير تحت عنوان: 54 طريقة تدعم بها اسرائيل ، اختيار عدد طرق الدعم مقصود بطبيعة الحال، وله دلالته في المناسبة - وكانت الملاحظة الأساسية على التقرير انه ركز بقوة على المبادرات الشخصية، اعني انه وضع امام كل فرد بدائل وخيارات عدة، تحقق الدعم المنشود لإسرائيل، بحيث لا يستطيع أي أحد أن يدعي انه بلا حيلة او عاجز عن الفعل. كانت رسالة التقرير لكل إنسان متعاطف تقول ما يلي: دعمك الشخصي مهم لنا للغاية، وتستطيع أن تفعل الكثير لصالح اسرائيل. ولا عذر لك، فهذه قائمة ما يمكنك أن تجربه عن دعمك، فتقدم ولا تقعد ساكناً. أنها تدعو إلى شراء البضائع الإسرائيلية وتقديمها على غيرها، حتى وان غلا ثمنها. وتقترح في هذا الصدد شراء أنواع محددة من العصائر والفواكه إسرائيلية المصدر والصنع. وتذهب إلى القول بأن من يريد أن يدعم اسرائيل حقاً أن يشتري هذه المنتجات حتى وان كرهها . وإذا كان راغباً عنها فليشترها ثم يهديها إلى غيره. وهو يشجع ما هو إسرائيلي فإنه يدعو الى مقاطعة كل ما هو عربي، حتى النفط العربي يجب أن يعرض عنه، وان اقتضى ذلك أن يستخدم المرء الدراجة بدلاً من السيارة، إذ هو بذلك يخدم اسرائيل من ناحيتين، اذ هو يقلل من الاعتماد على النفط العربي، وهو أيضاً يشارك في حماية البيئة! في هذا السياق جرت دعوة اليهود في اسرائيل خاصة إلى ضرورة القضاء على حوادث السيارات، التي يصل عدد قتلاها سنوياً إلى 600 شخص، والحجة التي قدمت في ذلك أن اسرائيل اذا كانت تفقد أرواح بعض أبنائها في الصراع مع الفلسطينيين، فليس هناك ما يبرر مضاعفة الخسائر بحيث يفقدون أرواحاً أخرى بأيديهم. وهي تحث على شراء المنتجات الإسرائيلية من السوق، طلبت من الجميع عدم تضييع فرصة الحوار مع البائع، ونقل المعلومات اللازمة عن الصراع إليه. وذكرتهم بأهمية شراء الزهور للدعم المعنوي لأسر الضحايا الإسرائيليين، كما طلبت منهم الإنفاق بسخاء في الفنادق والمتاجر الإسرائيلية، لتعويض النقص في الموارد الذي أصاب تلك المؤسسات بسبب تراجع السياحة في ظل تصعيد المواجهة مع الفلسطينيين، واستطراداً من هذه النقطة شملت المقترحات الدعوة إلى إقامة حملات ترويج سياحية تعرف بتراث اسرائيل وحقها في البقاء على أرضها . وفي حثها على القيام بالدور الإعلامي طالبت بأن يعطى كل فرد بعضاً من وقته لمراقبة المواقع العربية على شبكة الإنترنت، والرد عليها والاشتباك معها، وعدم السكوت على ما تبثه تلك المواقع، بحيث يرد كل إسرائيلي او متعاطف بالمعارضة أو التأييد للأفكار المنشورة لتلتقط قلمك او تضغط على أزرار لوحة جهازك، وتبدأ بالكتابة للصحف ووسائل الإعلام. لا تبق صامتاً، ولا تنتظر أحداً غيرك يقوم بالمهمة. افعلها أنت . ذهبت المقترحات إلى دعوة المتلقين إلى فرز وترشيح متحدثين وسفراء باسم اسرائيل. واقتراح أسمائهم على الحكومة الإسرائيلية، لكي يواجهوا سفراء القضية الفلسطينية ومؤيديها. وحثتهم على تكوين جماعات للعصف الذهني، لمناقشة المزيد من الأفكار التي تحقق الدعم لإسرائيل في مواجهة أعدائها . لقد طالب تقرير 54 طريقة لدعم اسرائيل كل من استلم رسالته بأن يعيش حالة المساندة طول الوقت، في بيته ومكتبه والمتجر الذي يتعامل معه، وخلال جلوسه امام شاشة جهازه الإلكتروني، وانتهاء باللحظة التي يأوي فيها إلى فراشه. حيث يرجى منه أن يفكر قبل النوم في ضحايا التفجيرات الإرهابية ، وما سيفعله من أجلهم غداً، حينما يستيقظ ويغادر فراشه!. (4) هذا نوع من التربية وتشجيع المبادرات الشخصية نحن أحوج إليه وأحق به. أحوج إليه لأننا الضحايا التي تتعرض لما تعرف من صور القهر والإذلال اليومي، اللاحقة لتضييع الحقوق واغتصاب الأرض. وأحق به لان إحقاق الحق وإزهاق الباطل ركن أصيل في ثقافتنا، وواجب ديني بامتياز. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - الذي وصفه الإمام الغزالي في الأحياء بأنه القطب الأعظم للدين، هو تكليف يستنفر المؤمنين طوال الوقت. يخرجهم من الانكفاء على الذات والاستغراق في الشأن الخاص، ويحث كل واحد منهم على ضرورة أن يفعل شيئاً لأجل الدفاع عما هو حق، وإصلاح العوج والقصور من حوله، كل حسب استطاعته، من التغيير باليد إلى الأنكار بالقلب. المهم ألا يلتزم الصمت وألا يغيب عن جبهة الإصلاح والتقويم، حيث يتعين عليه أن يظل دائماً فاعلاً في إحقاق الحق وإزهاق الباطل. وهو الواجب الذي جرى تهميشه وابتذاله للأسف الشديد. حين نفكر في جهد المؤسسات الأهلية، فان المرء لا يملك إلا أن يشير بالتقدير إلى تجربة نجحت في دبي، وجسدت هذا الموقف الذي ندعو إليه. فقد تشكلت هناك لجنة العمل لدعم الانتفاضة ، وفهمت من الدكتور تيسير النابلسي المسئول عنها أن كلمة العمل أضيفت إلى التسمية عمداً، حتى تنبه إلى أن الفعل هو محور رسالتها، وليس أي شيء اخر. وفي هذا الإطار فان اللجنة التي ضمت ثلاثين عضواً أجرت مسحاً للجمعيات الخيرية ولجان الزكاة في فلسطين، ورشحت 23 جمعية ولجنة منتشرة في التجمعات السكانية المختلفة، لكي تكون واسطتها في إيصال الدعم الذي اختارت له مجالات ثلاثة هي: الدعم الطارئ الذي يقدم في كل مناسبة او منطقة يحدث فيها تماس مع العدو وأضرار نتجت عن ذلك التماس - دعم الأسر المتضررة من العدوان - دعم الجامعات الفلسطينية والطلاب العاجزين عن سداد رسوم دراستهم. شكلت اللجنة بعد بدء الانتفاضة بشهرين، واستطاعت حتى الآن تحويل حوالي أربعة ملايين دولار إلى الداخل الفلسطيني، لصالح الأغراض سابقة الذكر. وهو مبلغ قد يكون قطرة في بحر، لكنه خير من لا شيء على الإطلاق، ثم انه نموذج اللجنة لو انه تكرر، فانه قد يخفف شيئاً من الحزن الفلسطيني الكبير. إلى جانب الدور الذي يمكن أن تقوم به المبادرات الشخصية تبدو فكرة المؤاخاة بحسبانها صيغة أخرى لدعم الصمود جليلة الفائدة. لقد أشرت قبل قليل إلى المؤاخاة التي تمت بين مدينتي الزرقاء الأردنية وجنين الفلسطينية، وقرأت في مقالة كتبها الشيخ رائد صلاح رئيس الحركة الإسلامية في فلسطين 48، انهم بدأوا في تطبيق هذه الفكرة في الداخل الفلسطيني، حيث أعلنوا عن مشروع للمؤاخاة بين البيوت في فلسطين 48 ومثيلاتها في الضفة والقطاع. على أن يلتزم من يساهم في المشروع بأن يتولى رعاية بيت في الضفة والقطاع، إلى جوار بيته، بحيث يدفع رب الأسرة العربية في داخل اسرائيل مبلغاً بحد أدنى 500 شيكل، قابلة للزيادة، إلى الأسرة التي يختار التآخي معها على الجانب الآخر القدس العربي - 26/4 - ولا اعرف ما الذي حققه المشروع حتى الآن، لكني ارشح الفكرة لكي تطبق على نطاق أوسع في العالم العربي. ذلك انه بعد التدمير الهائل الذي أحدثه الاجتياح الإسرائيلي، فان إعادة بناء الخدمات والمرافق ومختلف عناصر البنية التحتية اللازمة لإعادة الحياة في الضفة والقطاع، هذه العملية تتطلب مبالغ هائلة، وتستغرق وقتاً طويلاً. ولست واثقاً من أن الدول العربية او ما يسمى بالدول المانحة تستطيع أن تلبي كافة احتياجات عملية إعادة البناء هذه. وحتى اذا بذلت تلك الدول قصارى جهدها في هذا الصدد، فليس من شك أن إسهام المجتمعات العربية ممكن أن يسرع بمهمة الإنجاز، فضلاً عن أن ذلك الإسهام قد يغطي مساحات لا تبلغها جهود الدول. خصوصاً أن عملية المؤاخاة تتسع لما لا حصر له من المجالات والأنشطة. مررنا بنموذج المؤاخاة بين البلديات، وهذه يمكن أن تتكرر، بحيث تتم بين الجامعات والمستشفيات والمدارس والمصانع والمعامل وغرف التجارة ومؤسسات الرعاية الاجتماعية والأندية الرياضية.. الخ. وعن طريق تلك المؤاخاة يمكن لمختلف الأنشطة والمشاريع المنتشرة في أنحاء العالم العربي أن تقوم بإعانة ودعم الأنشطة الموازية في الضفة والقطاع. ولك أن تتصور قدر الحيوية والنهوض الذي يمكن أن يتحقق في الداخل الفلسطيني لو أخذت الفكرة على محمل الجد، فحملت الجامعات العربية نظيراتها في فلسطين، وكذلك فعلت المدارس والمصانع والمستشفيات وغير ذلك. أن مجالات الفعل أوسع بكثير مما نتصور، وهي لا تتطلب سوى أمرين أولهما يتمثل في حيوية المجتمع وحضوره، والثاني نتيجة للأول، وهو إرادة الفعل - ولا أعرف بعد ذلك الإيضاح الأخير ما اذا كانت المسألة صارت أيسر أم أصعب!