ما وقع مع سفن «الحرية» التي جابت البحار بهدف فك الحصار عن قطاع غزة أعاد فلسطين الى الواجهة وأمد القضية الفلسطينية بالطاقة على الحياة والبقاء. ان الكارثة التي وقعت مع «اسطول الحرية» وأدت الى مقتل تسعة نشطاء اتراك وجرح عدد آخر كشفت الحقيقة التي يعرفها كل من تعرض للاحتلال والاقتلاع الذي تمارسه اسرائيل. وبينما كانت تركيا للأمس من اقرب وأهم حلفاء اسرائيل اذا بها اليوم في قيادة التصدي لحصارها لقطاع غزة ولاحتلالها للقدس والضفة الغربية والجولان. كما ان التحالف الذي نشأ بين عشرات المنظمات الانسانية ومنظمات المجتمع المدني العالمي مع ناشطين عرب وأتراك يمثل تحالفاً دولياً لأجل انصاف القضية الفلسطينية. وقد عادت الكويت بقوة الى صلب القضية الفلسطينية من خلال مشاركة 18 متطوعاً ومتطوعة. ولا يمكن اغفال دور القوى الاسلامية في المنطقة العربية بصفتها قوى ديناميكية حية تصطدم مع واقع النظام العربي وتطرح قضية فلسطين وتتمسك بها من القاهرة الى تركيا والكويت. ما وقع لسفن «الحرية» في المياه الدولية للناشطين الاتراك والعرب والعالميين احيا الضمير وأعاد الى الذاكرة: النكبة عام 1948 حينما طرد الشعب الفلسطيني من ارضه وقامت اسرائيل، حرب 1967 حيث وقعت القدس والضفة الغربية وعزة والجولان السورية وسيناء المصرية تحت الاحتلال الاسرائيلي. وتواصل الحدث مذكراً بالانتفاضة الاولى عام 1987 والانتفاضة الثانية عام 2000 وذكرى احتلال بيروت وحصارها عام 1982 ومجازر صبرا وشاتيلا وقانا، وحرب «حزب الله» عام 2006 وحرب «حماس» في غزة وحرب الاستنزاف المصرية الاسرائيلية بين 1968-1970، واجتياح اسرائيل للضفة ولجنين ورام الله عام 2002، وذكر الحدث بمئات الاجتياحات والمقاومات في محيط الدول العربية وفي جنوب لبنان وفلسطين على مدى العقود. ان ما وقع مع قافلة «الحرية» في عرض البحر يشير الى اتجاه يجب ان تسلكه المقاومة الفلسطينية. فالاتجاه يشير الى اهمية بناء التحالف الدولي المدني والتمسك بالدعم التركي والعربي، وضرورة ادخال اسرائيل في وضع تدفع من خلاله ثمناً سياسياً ومالياً واقتصادياً واعلامياً ودولياً واستراتيجياً من جراء حصارها واحتلالها. ما وقع اشار الى اهمية المقاومة الايجابية ذات الطابع المدني الذي يكسب الشعب الفلسطيني تعاطفاً دولياً منقطع النظير ويساهم في عزلة اسرائيل بين اشد انصارها في الغرب. لهذا على المقاومة الفلسطينية في هذه المرحلة ان توحد استراتيجيتها في المقاومة، وان تسعى الى مواجهة اسرائيل حيث نقطة ضعفها المركزية: الرأي العام العالمي، الدعم الاميركي، المجتمع المدني الانساني في العالم، تحريك القوى اليهودية والاسرائيلية المناهضة للاحتلال وصولاً الى فرض العقوبات على اسرائيل اسوة بما حصل مع جنوب افريقيا عندما عارضها العالم بسبب عنصريتها وتمييزها ضد سكان البلاد الاصليين. لنتذكر أن العالم يشعر بالضجر من اسرائيل والتضامن الدولي امر قائم، ومن اهم اسبابه التطرف الاسرائيلي. لكن من جهة اخرى فالتعاطف الدولي مع القضية الفلسطينية يمكن ان يسقط اذا وقع تطرف فلسطيني في الوسائل في هذه المرحلة. ولندلل على موقفنا لنفترض ان مجموعة فلسطينية مدربة ومسلحة نجحت في الوصول الى شواطئ حيفا هذا الاسبوع. سينقلب الموقف، سينقلب كل شيء، سيخف الضغط على اسرائيل وسينسى المجتمع الدولي «اسطول الحرية» لانه سيركز على الضحايا في اسرائيل. لهذا هناك ضرورة لاستراتيجية فلسطينية موحدة دقيقة حول مشروع المقاومة. من جهة أخرى اكدت المواجهة حول «اسطول الحرية» ان الشارع العربي يريد موقفاً اكثر قوة في تعبيراته تجاه فلسطين وذلك في اطار بحثه عن ميزان جديد. لهذا يتطلع العالم العربي الى تركيا لتغير ميزان القوى. فتركيا التي تتزعم القوة المعارضة لاسرائيل هي حليف حتى الامس القريب لاسرائيل وجزء اساسي من النظام الدولي والنظام الاوروبي ومنظمة حلف الاطلسي. لكن تركيا اكتشفت ان الاستقرار في الشرق الاوسط الذي تنتمي اليه لن يتحقق الا بالسلام العادل، واكتشفت ان السياسة الاسرائيلية ستؤدي الى خلق فراغات امنية وحروب وصراعات تودي بكل تقدم لتركيا. ربما ترى تركيا انها يجب ان تقود الموقف لانقاذ الشرق الاوسط من اسرائيل وانقاذ اسرائيل من نفسها وتطرفها. لقد امتدت تركيا اقتصادياً وحداثياً وتطورت قدراتها، فهي اكبر اقتصاد في الشرق يصل الى 660 بليون دولار وتمثل قاعدة صناعية انتاجية لا مثيل لها في الشرق. وتمتلك تركيا حكماً ديموقراطياً واقتصاداً حيويياً وجيشاً متطوراً واستقلالاًً. وتركيا ليست كأيران تعيش وضعا عسكريا ومقاطعة اميركية، وليست دولة راديكالية كحالة فنزويلا او كوبا، بل انها دولة شعبها في اغلبيته مسلم وهي اقرب لان تكون دولة اوروبية في اقتصادها وانفتاحها وارتباطها باوروبا والعالم. وتمتلك تركيا المقدرة على ان تطرح مشروعا للسلام وآخر للمقاومة وثالثاً للتنمية في منطقة الشرق الاوسط. لتركيا مصلحة عضوية في تحويل قوتها لصالح ازدهار المنطقة، وهي في هذا تعيد روابط استمرت لمئات السنوات بين العالم العربي وتركيا. ان تركيا بدأت تعي أن شروط الاستقرار والتنمية والتجارة الحرة وحقوق الانسان والتطور الديموقراطي في الدول العربية مرتبطة ارتباطا كبيراً بانجاز عملية تاريخية تؤدي الى تأمين الحقوق الفلسطينية في تقرير المصير واقامة الدولة الفلسطينية. ستبقى قوة اسرائيل في عسكريتها وجيشها وسيطرتها الكبيرة على الكونغرس الاميركي وتأثيرها الكبير على السياسة الاميركية تجاه الشرق الاوسط. انها بالفعل قوة كبيرة عسكرية وسياسية واقتصادية. واسرائيل في النظام الدولي دولة اوروبية، ودولة عصرية، ودولة ديموقراطية، لكنها في الممارسة دولة عنصرية، تضطهد شعبا اخر، وتسعى كل يوم لسلب اراضيه واخذ ممتلكاته وطرد عائلاته وسجن شبانه وشاباته. في الممارسة لا علاقة بين الصورة الاسرائيلية الحقيقة وبين الصورة الاسرائيلية الوهمية. ان ردة الفعل العالمية والتظاهرات في دول العالم الاسلامي والعربي والغربي تؤكد ان الصورة بدأت تتغير. وتبين ردة الفعل ايضا ان العمل السلمي في ظل التحالف الدولي والموقف الواضح بامكانه ان يحرج اسرائيل ويهدد احتلالها ويظهر وجهاً إسرائيلياً طالما تجاهله العالم. ان دخول تركيا على الخط الساخن بأسلوبها الجديد الفعال يثير التفاؤل وسط الضياع العربي، لكن توحيد الاستراتيجية الفلسطينية هو شرط استراتيجي لاستكمال شروط التحرر الفلسطيني. * استاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت.