هذا كتاب لشيخ المحققين العلامة عبدالسلام هارون رحمه الله ومعرفتي بالشيخ الجليل رحمه الله معرفة قديمة، سبق لقائي به انبهاري بجهوده الرائعة في تحقيق التراث، كنا في بداية تحصيلنا الثقافي وزهرة العمر نتشوق لقطف المعارف، نرى اسمه على أغلفة الكتب محققا وشارحا ولم أكن أدرك ما معنى التحقيق وأنا في المراحل المبكرة من مسيرتنا العلمية والثقافية، وأذكر انني كنت أضيق ذرعا بالحواشي التي تقتصر على المقارنات بين النسخ فلم أكن أدرك ما أهميتها ولا احتياج القارىء لها، فقد كان جل اهتمامي منصرفا الى الحواشي التي تشرح وتفصل، وبقيت حالة الضجر تلك الى ان التحقت بالدراسة الجامعية في جامعة القاهرة فأدركت شيئا من أصول التحقيق وقيمة الجهود المبذولة، ثم أرادت المشيئة الإلهية ان أحظى بالتتلمذ على الشيخ بعد ان التحقت بدبلوم الدراسات العليا في جامعة الكويت فدرست عليه مقرر نشر النصوص وتحقيقها، ونقلنا رحمه الله بعلمه الغزير وجده الدائب واخلاصه النادر للغة القرآن نقلنا الى آفاق رحبة وعوالم مفتوحة كان من أول ما غرسه ولقنه لنا الصبر والتواضع وعدم الركون والتيقن فكل شيء قد ينقض اذا ظهرت حقيقة ترفعه او يثبت اذا ظهر ما يعززه وأذكر وكنا في مرحلة الإعادة ولدينا متسع من الوقت اننا طلبنا منه ان يكلفنا بعمل يتصل بالتراث فوجهنا الى فهرسة مواد معجم "تهذيب اللغة" للأزهري ولم يكن الشيخ بحاجة الى جهدنا فقد انتهى حينها من فهرسة مواد التهذيب لكنه كان يهدف الى ان يضعنا أمام معجم لغوي فذ يحفزنا للقراءة والنظر في هذه الموسوعة اللغوية، وكلما دارت الأيام أدركت قيمة ذلك التكليف الذي حبانا به. وأثر على تكويننا العلمي وفتح لنا آفاقا رحبة للدرس والبحث. كان الشيخ مثالا للعالم المتواضع الذي لا يتأفف من إلحاح طلابه حول قضايا سهلة او عويصة وكنت أحيانا أضجر من تكراره الشرح بحجة انه كان مفهوما وواضحا لكنه كان يقول بأبوة فياضة من حق الجميع أن يتعلم ومن حقنا ان نحكم. لقد أحسنت أسرته بنشرها كتابة (كناشة النوادر) ولهذا الكتاب قيمة من جهات عدة: فموضوعه لغوي مشوق وهو حصيلة قراءات لعالم فذ في تراثنا العربي زهاء نصف قرن. وجاءت لغته طيعة ترتقي بالقارىء ولا تستعصي على الفهم. صدر الكتاب في طبعته الجديدة بعد وفاة الشيخ وأشرفت أسرته على استكماله بما وجدته في أوراق الشيخ، وخدمت العمل بما يستحقه من كشافات وأدلة تعين على تحصيل الفائدة اللغوية بأيسر السبل. وللكتاب هدف وغاية عروبية رسمها المؤلف بكل وضوح وهي الدفاع عن اللغة العربية وتراثها العزيز ف"الكناشة" كما يقول مؤلفها "جزء من تلك الصورة المشرقة للتفكير العربي العزيز، والحضارة العربية الفارعة، وتحفة لمن يؤمن بتراثه وهاد لمن ضل به الطريق عن الإيمان بمعدنه الأصيل، وسالفه المضيء" (الكناشة ص7)، وفيه صورة لتفكير أسلافنا القدماء في أمور حضارية (الكناشة 11). لكل ما ذكرته عن شيخ المحققين رشحت "الكناشة" للمسابقة التي تعقدها مكتبة الملك عبدالعزيز في الرياض القسم النسائي تحت عنوان (اقرئي، اعرضي، اربحي) ذلك لما لمسته من انصراف كثيرات من طالباتنا عن النظر في التراث والاهتمام به، ومن جهة أخرى ندعو للشيخ بأن يجازيه الله إحسانا بما قدمه من خدمات لتراثنا ولغة القرآن. *جامعة الملك سعود/ الرياض