إلى رونالدو.. قرة عين البرازيليين أما بعد: فقد تدفقت تدفق الأمازون، او تدفق أمطار البرازيل الاستوائية. أبليت بقدميك ورأسك بلاء عظيما، وحققت نجاحا كرويا باهرا، صار حديث الناس في كل مكان . قبل أسابيع كان بعض أطفال العالم يحاكون قصة شعرك المثلثة. ولم يمنعهم الكبار خشية أن تتكرر مأساة الطفل التركي الذي انتحر، بعد ان منعه ذووه من تقليد قصة شعر لاعب منتخب بلاده. لقد أصبحت (قصة القبعة) تقليعة ليس لأطفال البرازيل وحسب. بل لأطفال العالم أجمع. ولم ينس معدو نشرات الأخبار الرياضية أن يفردوا لها مساحة زمنية كافية، بل لقد وظفت (كرتونيا) لخدمة الانتخابات الرئاسية المقبلة في البرازيل. ولعل بعض الكبار أرادوا تقليد تلك القصة لولا أن شعر الجمة عندهم خفيف او أجرد، فتراجعوا عن ذلك. (سأتفادى الحديث عن الصلع ما أمكن، كي لا يظن أخونا محمد الحمد بنا الظنون). هذا زمانكم بلا منازع.. فتطلعات النشء الجديد تتجه الى نجوم الكرة والسينما. لن يحلم الأدباء ولا المفكرون ولا الساسة بتلك النجومية. لكن بعضهم يتمنى ولو جزءا يسيرا من التوازن بين رياضة الروح ورياضة الجسد. لكن من قال، يارونالدو، ان الرياضة مجردة من المضامين القيمة؟ لم يقل أحد ذلك أبدا. فالرياضة وسيلة لخدمة أهداف عليا. أي ان غايتها موجودة خارجها. لقد سمعت بلاتر رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) يصرح في افتتاح دورة كأس العالم السابقة قائلا: ان الهدف من ذلك التنافس هو تنمية بذور القيم الانسانية الجميلة، وترويض النفس، وتكريس الانضباط والإحساس بالمجموعة. هنالك يارونالدو، وكما تعلم، أدوار محددة، وقواعد للسلوك، وأهداف مشتركة يساهم كل لاعب في تحقيقها من موقعه، ووفقا للدور المسند إليه. إنها لعبة تكرس مفهوم الانتماء للمجموعة، وان كان ذلك الانتماء لا يلغي المهارات الخاصة، والاجتهادات الشخصية والإبداعات الفردية، غير ان الناس قد ينأون أحيانا عن تلك الأهداف والغايات، فينصب التركيز على المظهر دون الجوهر، وعلى الشكل دون المضمون. لكن هل تعرف، يارونالدو، لماذا أنت أكثر شهرة من أمير شعراء البرازيل (دروموند)؟ المسألة ببساطة هي ان قصيدتك الكروية لا تحتاج الى ترجمة من لغة الى أخرى. إنها نص مفتوح على كل اللغات الحية والميتة على السواء، لذلك فقد تمكن كل سكان المعمورة من مشاهدتك والاستمتاع بالنقلات الجميلة، والتمريرات البديعة، وعلى رأس هؤلاء المتفرجين الشعراء والكتاب. كنت المؤلف والنص في الوقت نفسه. ولم تكن نصا مجازيا يستعصي على أذهان العامة، بل رسالة واضحة موجهة بشكل مباشر من قدمك او رأسك الى المرمى، رسالة لا ينفصل فيها الدال عن المدلول، ولا تحتاج الى مباضع النقاد لتشريحها، ولا الى كماشاتهم لتفكيكها، ولا الى مفاتيح ذهنية لفتح شفرتها. لهذا أصبحت، يومئذ والى الآن (مالىء الدنيا وشاغل الناس) مع الاعتذار لأبي الطيب المتنبي.. لم يمنحك الإعلاميون فرصة لالتقاط الأنفاس، فرابطوا بالأقلام والأوراق والمسجلات والميكرفونات والكاميرات عند باب منزلك، لعلهم يحظون بإشارة او كلمة أو لقطة أو لقاء. وهو ما دفعك الى ان تستجدي منهم بعض الوقت لتنال فيه قسطا من الراحة، فما زال وعثاء المباراة الأخيرة مع الألمان عالقا على جبينك. وتلك هي ضريبة النجومية ايها الأرنب اللامع. اما مواطنك الشاعر (بروموند) فهو وان كان رونالدو القلم، واللعب بالكلمات، إلا ان نصه الشعري حمال أوجه، متعدد القراءات والاحتمالات، مليء بالاشارات الحرة، والدلالات العائمة والغاطسة والطائرة. أليس هو القائل: "كل ما أبحث عنه هو الكلمة التي لن تكون موجودة في المعجم، ولا يمكن اختراعها". ترى كيف يطمح في التواصل مع الملايين التي تواصلت معك في الثلاثين من حزيران وقد كان هاجسه البحث عن كلمة ليست موجودة في المعجم. أما حين خرجت البرازيل من مباريات التصفية لبطولة كرة القدم عام 1982 فقد كتب يقول: "ان البرازيليين يعيشون منتشين بأوهام كرة القدم والكرنفالات". فهل كان دروموند يحلم بأن يسحب البساط من تحت أقدام كرويي بلاده؟ لا عليك يارونالدو، فانه رجل يحلم والأحلام، كالأمثال، لا تعارض. لكنه حين يلجأ الى النثر الواضح المباشر فإن القراء في البرازيل غالبا ما يفتحون جريدة الصباح وهم يتساءلون: "عن أي شيء سوف يتكلم دروموند اليوم؟" لقد بلغ الإعجاب بأحد أصدقائه الى حد القول: "لا أعرف كيف يمكن ان تكون حياتي بدون دروموند. انه أعظم شعرائنا ولكنه فوق ذلك صديقي!!" (أنظر الأدب في البرازيل د.شاكر مصطفى) ومع ذلك كله فان ذلك الشاعر لم يحظ بتلك النجومية التي حققتها. ولم يكن مواطنك الروائي البرازيلي جورج أمادوا أوفر حظا منه. لقد كنت ثعلبا في مراوغاتك، أرنبا في تنقلاتك السريعة. وما أجمل السرعة اذا لم تصبح بوابة الى عالم النسيان. وما أجملها اذا لم تقترن ببطء الفهم. فهنالك من يكون سريعا وراء مقود سيارته مثلا، لكنه سلحفائي في كل شيء آخر، بطيء في استيعابه للأحداث، وفي نظرته للوجود من حوله. ليته يزيد من ترس سرعة الإدراك قليلا، بدلا من تصعيد ترس محرك السرعة في سيارته، إنه عصر السرعة، كما تعلم، وتلك هي ميزة التكنولوجيا الحديثة، لكن، وكما ان الخفة والثقل نسبيان، فان السرعة والبطء كذلك. للبطء جانب ايجابي حين يمنحنا فرصة لتدارك الأخطاء، ومراجعة الحسابات، وهو ايجابي، كذلك، حين يمنحنا إحساسا بالزمن وبأنفسنا وبالناس.. وبكل الأشياء الجميلة من حولنا. رونالدو أيها النجم اللامع.. في الجعبة تداعيات أخرى تضيق بها هذه المساحة المحدودة.. ربما أحتفظ بها لدورة كأس العالم القادمة.