الاصطدام الذي حدث في الجو فوق قلب أوروبا يلقي بأضواء كاشفة على المخاوف المتزايدة بشأن الطبيعة الهشة للغاية للمجال الجوي للقارة وضغوط صناعة الطيران الرامية للدفع بأعداد متزايدة من الطائرات في الجو وما يترتب على ذلك من تحليق الطائرات وهي قريبة من بعضها البعض. وبينما يقول المحققون أنه من المبكر جدا تحديد السبب الحقيقي للمأساة التي أودت بحياة 71 شخصا على الاقل، فإن الاصطدام وقع بعد شهور فقط من قيام ضباط المراقبة الجوية الاوروبيين بخفض الحد الادنى لارتفاع الطائرات فوق بعضها البعض أثناء التحليق إلى النصف. وتسمح القواعد الجديدة للطائرات التي تحلق على ارتفاع 29 ألف قدم بالطيران الواحدة خلف الاخرى على مسافة ألف قدم فقط بدلا من ألفين مثلما كان الحال قبل ستة أشهر فقط وذلك بغية السماح لاعداد أكبر من الطائرات بالتحليق فوق طرق جوية مزدحمة بالفعل في سماء أوروبا. وقد أدى هذا من الناحية الفعلية لمضاعفة أعداد الطائرات القادرة على الطيران على ارتفاعات فوق بعضها البعض. تجدر الاشارة أن كافة الطائرات الحديثة ومنها طائرة الشحن من طراز (دي إتش إل) التي كانت أحد طرفي الاصطدام الاخير، مزودة بأجهزة رادار لتجنب حوادث الاصطدام وهو الامر الذي يوفر للطيارين إنذارا مبكرا بوجود طائرات أخرى في مجالهم الجوي، وبرغم هذا فإن الطيارين الذين يطيرون بسرعة تزيد على 500 ميل/ ساعة ربما لا يكون أمامهم سوى ثوان معدودة لاتخاذ القرار. وقد وقع الاصطدام عند منتصف ليل الاثنين الثلاثاء حيث يكون عدد الطائرات محدودا في الهواء وحيث يكون الضغط على المراقبين الجويين قد خف. بيد أن غالبية المراقبين الدوليين في مختلف أنحاء أوروبا يشكون بصورة متزايدة من أن أمان الطائرات قد يصير عرضة للخطر بسبب إجهادهم في العمل. وقبل أيام فقط من وقوع الحادث ذكر ضباط المراقبة الجوية في بريطانيا أنهم قدموا شكاوى رسمية تتعلق بزيادة حجم العمل تزيد على ضعف المعدل العادي وذلك بشأن أوضاع يعتقدون أن الطائرات ربما تكون عرضة للخطر فيها لانهم يتعاملون مع أعداد من الطائرات تزيد كثيرا عن الحد المعتاد. كما وقع الاصطدام على خلفية جهود تبذلها المفوضية الاوروبية لخلق مجال جوي موحد فوق سماوات دول الاتحاد الاوروبي ووضع حد للارتفاعات الاقليمية فوق سماوات أوروبا. وكانت الطائرتان اللتان اصطدمتا في حادث ليلة الاثنين المأساوي قد عبرتا من المجال الجوي الالماني إلى المجال الجوي السويسري. وفي الوقت الذي يعتقد فيه أن عملية التسليم لم تكن السبب في الحادث، فإن كلا من البلدين يرفض بشدة حدود هذا المجال في المفاوضات الرامية لابرام اتفاق جديد لحركة الطيران بين برلين وبرن. وتريد المفوضية الاوروبية وضع حد للخلافات الاقليمية حيث يعنى برنامجها (أجواء واحدة) أن المجال الجوي لكل دولة عضو مفتوح للطائرات من الدول الاعضاء الاخرى. ويمكن أن يتم بعد ذلك التنسيق لهذه (الأجواء المفتوحة) مركزيا وأن يتم تشغيلها طبقا لمعايير قياسية من الناحية الفنية ومن ناحية الامان. لكن خصوم البرنامج، ومن بينهم منظمات للطيارين وقسم كبير من ضباط المراقبة الجوية، يخشون من أن التحول سيؤدي إلى فوضى وتدني مستوى الامان ناهيك عن فقدان وظائف بين ضباط المراقبة في كل بلد على حدة. وتصر المفوضية الاوروبية على أن الاصلاح ضروري لتحاشي حدوث كوارث حيث تتنبأ إدارة المراقبة بزيادة الكوارث بنحو خمسة في المائة سنويا في المستقبل القريب. وتشير المفوضية إلى حقيقة أن 25 في المائة من جميع رحلات الطائرات في أوروبا تواجه حاليا تأخيرا بسبب عدم كفاءة إدارة المراقبة الجوية. تقول لويولا دي بلاشيو مفوضية الاتحاد الاوروبي للنقل إن الناس في أوروبا يريدون ويطلبون أجواء واحدة دون حدود ودون قصور وبضمان متين للامان. وقد طرحت خطة (أجواء واحدة) في تشرين الاول/ أكتوبر الماضي عقب هجمات 11 أيلول/ سبتمبر على أمل أن تؤدي المخاوف العامة الملحة بشأن الامان الجوي إلى الاسراع بعمليات الاصلاح المقبلة. لكن الخطة التي كان التصور الاول لها أن تنفذ بحلول عام 2004 دخلت دهاليز المطبات البيروقراطية والسياسية برغم الضغوط التي مارستها ألمانيا وغيرها من الدول الرئيسية. ويستخدم الالمان الطائرات بمعدلات تفوق غيرهم في أي مكان آخر في أوروبا وقد صار التأخير في المطارات الاوروبية خلال موسم العطلات بمثابة شكوى مزمنة للركاب الالمان. يقول ديتر كادن أحد كبار المسئولين عن الامان الجوي في ألمانيا إننا نرى أن (برنامج الأجواء الواحدة) ذو ضرورة ملحة، فأوروبا تقترب بسرعة بالفعل من الحدود القصوى لقدرتها الحالية على الاستيعاب. وقد توصل وزراء النقل الاوروبيون حتى الان إلى اتفاق بشأن إيجاد سلطة موحدة للطيران المدنى الاوروبي وإن لم يتوصلوا بعد إلى اتفاق بشأن تحديد مقرها الرئيسي. وستعمل هذه الوكالة على تنسيق جهود وكالات الطيران المدني الوطنية وتوفير معادل أوروبي لادارة الطيران المدنى الامريكية. وليس ثمة ما يشير إلى أن أيا من هذه الاصلاحات كان يمكن أن يحول دون وقوع حادث ليلة الاثنين. بيد أن متحدثا باسم بلاشيو صرح في بروكسل يوم الثلاثاء وبكلمات اختارها بعناية: من المحتمل أن يوفر المجال الجوي الاوروبي الموحد إجابة سريعة على مواقف غير عادية في الهواء.