رغم دخول انتفاضة الأربعاء أسبوعها الثانى، ما زال نظام الملالي يصر على أنها مجرد احتجاجات ممولة من الخارج، متهمًا أمريكا وحلفاءها بالوقوف وراء موجة الغضب التي اندلعت شرارتها من مدينة مشهد ثاني أكبر المدن الإيرانية، وسرعان ما امتدت إلى بقية المحافظات مهددة النظام بالسقوط، في تظاهرات مزقت ولأول مرة صور المرشد الأعلى خامنئي، مطالبة برحيل الجميع، والبحث عن نظام بديل يحقق مطالب الشعب الإيراني بمواجهة الفساد والأوضاع الاقتصادية المتردية وأزمات البطالة والعلاج والإسكان، وهي مطالب تختلف جذريًا عن مطالب انتفاضة 2009 التي اشتعلت جذوتها احتجاجًا على سوء الأوضاع السياسية وتزوير الانتخابات. فاتورة التدخلات ومع أن الخبز والحرية والكرامة شعارات أساسية لانتفاضة 2017، إلا أنها تحمل احتجاجات أخرى معلنة عن التدخلات الإيرانية في شئون الدول الأخرى، وتحميل المواطن فاتورة هذه التدخلات فقرًا وتضخمًا وبطالة يعاني منها ملايين الشباب وهو ما جعل المشهد الثورى يتحول من حالة غضب على المعيشة الضنك وتدهور الاقتصاد إلى حالة من عدم الرضا على الوضع السياسي للبلاد، وترديد هتافات (الموت لخامنئي وروحاني)، وغيرها من الشعارات التي تعبر عن مستقبل غامض ينتظر إيران. فبينما كان الإيرانيون ينتظرون تحسنًا في الأحوال المعيشية بعد الاتفاق النووي، وتخفيف العقوبات الاقتصادية واستئناف تصدير النفط الإيراني، جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن، ولم يحصد الشعب شيئًا؛ ولم يتعظ نظام طهران، ماضيًا بكل صلف وغطرسة في تحدي إرادة الإيرانيين، موجهًا كل أموال الشعب للإنفاق على المعاهد الدينية والميليشيات العسكرية والحرس الثوري. تضليل العالم والغريب هنا أن النظام يحاول تصوير المظاهرات على أنها تعبير عن الوضع الاقتصادي وحسب، وهذا ما يعتبره مختصون في الشئون الإيرانية تضليلًا كبيرًا، إذ إن هناك شعوبًا كثيرة لديها مصاعب اقتصادية، لكنها لا تنتفض وتقدر ما تبذله السلطة من جهود ومحاولات لعلاج الأزمات، ولكن ما يتعلق بالنموذج الإيراني يرتبط بمظالم عميقة داخل المجتمع واضطهاد لكل المكونات، إضافة إلى كلفة تورط إيران في حروب بكل مكان في العالم. تجميل النظام وفى إطار عمليات تجميل النظام، من قبل بعض كبار المسئولين السابقين والحاليين، أطلق حميد رضا آصفي المتحدث الأسبق باسم الخارجية الإيرانية العنان لخياله وقال في كلمة حق يراد بها باطل، "إن التجمعات النقابية والاقتصادية الموجودة في بعض المدن الإيرانية تعد مؤشرًا بارزًا على وجود الحرية في البلاد، وتؤكد أن أي شخص يمكنه التعبير عن رأيه"، زاعمًا أن مطالب الشعب محل الاهتمام، متهمًا أمريكا والسعودية، باستغلال هذه الأجواء السياسية بتحويل المطالب الاقتصادية إلى توتر، على حد افترائه"، متناسيًا سقوط نحو 20 قتيلًا حتى الآن في شوارع وميادين إيران جراء عمليات الاعتقال والقمع المستمر للمتظاهرين الذين يحتجون على الغلاء ويواجهون قوات الأمن وخراطيم المياه بإضرام النار في إطارات السيارات، وهو المشهد الذي تكرر يوم احتجاج الشعب الإيراني على مصادرة أصوات الإصلاحيين في انتخابات 2009، ونزوله إلى الشارع يهتف ضد الديكتاتورية مطالبًا بإسقاط النظام. اتهام باطل وزاد نظام الملالي فجورًا سياسيًا واتهم المملكة بأنها تدير هذه المظاهرات والاحتجاجات، وهو اتهام، وصفه المتابعون لتدخلات إيران في دول الخليج بأنه اتهام جائر جدًا، مستندين في ذلك إلى سياسة المملكة ودستورها الدبلوماسي يرفض أي تدخل في شؤون الآخرين، مشيرين إلى أن هذه الاحتجاجات تعبير عن مظالم داخلية متراكمة منذ عام 1979، لافتين إلى أن هذه المظاهرات كانت متوقعة نظرًا لما تعيشه إيران من حالة سيئة داخليًا وخارجيًا، فضلًا عن ازدياد درجة الوعي السياسي لدى فئة عريضة من المتعلمين والمثقفين غادروا إيران مجبرين، وتمكنوا عبر ثورة المعلومات والشبكة العنكبوتية من صناعة وتشكيل مد ثوري داخلي، مضاد للثورة الخمينية. يحذر خبراء من تفاقم الأوضاع الاقتصادية في إيران، مشيرين إلى أن ارتفاع معدل البطالة إلى 25%، واستمرارعمليات القمع، سيولد مزيدًا من الكراهية لنظام فقد عقله وتوازنه، ويخوض الآن مع شعبه معركة وجود (إما يكون أو لا يكون) بعد أن وجد نفسه فجأة على خط مواجهة شعبية ملتهبة وساخنة دون قائد أو زعيم. وعود أمريكية رغم أن الشعب الإيراني، مثله مثل كل الشعوب المقهورة والمغلوبة على أمرها يتعلق بأي مساعدة خارجية تمنحه الأمل في التخلص من نظام يتاجر بالدين، إلا أنه لا يثق كثيرًا بوعود الأمريكان بدعم المظاهرات والدفاع عن الإيرانيين والوقوف بجانبهم ضد القمع الإيراني، فوعود واشنطن للسوريين والعراقيين واللبنانيين، ما زالت حاضرة في الأذهان؛ ولذا فهو يراهن على انتصاره حتى ولو استغرق ذلك وقتًا أطول أمام سلاح ودبابات ومدرعات الحرث الثوري، التي تزامن انتشارها مع تصريحات من كبار المسئولين لامتصاص الغضب الشعبي، من أبرزها اعتراف الرئيس روحاني نفسه بوجاهة الأسباب الاقتصادية للاحتجاجات، رغم اعتراضه على تصريحات الرئيس ترامب وخطوات الإدارة الأمريكية لإسقاط النظام، وخلق حالة من التعبئة الدولية ضده. الموت للديكتاتور يبدو أن النظام الذي أسهم في بقاء بشار الأسد في كرسيه، ويتفاخر بامتداد نفوذه في بيروت وبغداد ودمشق وصنعاء، لن يتمكن وكما يؤكد مختصون في الشأن الإيراني من حماية نفسه، إذا ما انتشرت الفوضى وتحولت الاحتجاجات إلى ثورة عارمة في كل أرجاء إيران، بعد أن رفع العمال والنقابيون وأبناء الطبقات الفقيرة لافتات (الموت للديكتاتور) وأحرقوا لافتات وصورًا لقاسم سليماني قائد الحرس الثوري. يعتقد كثيرون أن مشهد تمزيق صور على خامنئى المرشد الأعلى وحرقها بل ودهسها بالأقدام والسيارات، يعكس دلالات خطيرة، وينذر بعواقب وخيمة على البلاد خلال الأيام المقبلة، ويؤكد أن النظام على حافة الهاوية والانهيار، ولم يعد مقبولًا لدى غالبية الشعب، وأنه ليس بالقوة التى قمع بها احتجاجات 2009 والتى أطلق عليها آنذاك (الانتفاضة الخضراء). سقوط وشيك يرى مراقبون دوليون أن تزايد أعداد قتلى المظاهرات الإيرانية، سيشعل الاحتجاجات، وهو ما يحاول تجنبه نظام طهران، مشيرين إلى أن استمرار توسعها يوميًا يؤكد أن الشعب الإيراني طفح به الكيل ولم يعد لديه ما يخشاه، فأعلن غضبه من كل التيارات، (المحافظين والمعتدلين) إضافة إلى المرجعيات الدينية، بما يدعم احتمالية السقوط الوشيك النظام. مؤكدين أن نظام الملالي لن يستطيع الصمود والهروب إلى ما لا نهاية، لافتين إلى أن هذا الغضب سيكلفه كثيرًا، لأن الملفات العالقة ستبقى موجودة حتى لو توقفت المظاهرات، وأبرزها ملفات المعتقلين، التدخل العسكري في دول عربية، تفشي الفساد في كل الدولة الإيرانية، والملف الأخطر هو مظالم القوميات وأعراق وأديان ومذاهب مختلفة. وفقًا لمحللين سياسيين، فإن تورط النظام الإيراني في جرائم القتل والإرهاب في سوريا والعراق ولبنان واليمن، له ارتداد أخلاقي، فلا يمكن للدولة التي تقتل، أن لا ترتد عقيدتها الإجرامية على بنيتها الداخلية، والدليل على ذلك لجوء النظام لذات الوسائل في إدارة الموقف، فضلًا عن سعيه ومحاولاته لتنفيس الضغط الداخلى عبر إعادة تصدير الأزمة خارجيًا واللجوء لسيناريوهات إشغال الإيرانيين بقضايا أخرى هامشية لا تهمهم ولا ترتبط بقيتهم الأساسية وهي رفضهم للنظام الحالى الذي ورّث لهم الغلاء والفساد. إذا كان الشعب الإيراني وكما يؤكد المراقبون قد نفد صبره على حكامه الذين أنفقوا موارد الدولة على دعم ميليشيات إرهابية لرعاية وخدمة مصالح النظام في لبنانوسوريا والعراق واليمن، فإن المجتمع الدولي بات يتفق الآن على أنه لا استقرار في منطقة الشرق الأوسط وأجزاء أخرى مهمة في العالم، إلا بالتخلص من نظام ولاية الفقيه، وأطماعه التوسعية ومناهجه الدينية المتطرفة، التي تزكي الطائفية وتشعل نار المذهبية في العالم. وفى الوقت الذى ينتظر فيه الإيرانيون تحركًا دوليًا أكبر؛ لدعمهم أمام أسلحة القمع الإيراني المتوحشة، فإنه ينتظر من العالمين العربي والإسلامي تحركًا أقوى وأسرع لردع هذا النظام الفوضوي، ولا سيما وأن موقف الدول العربية والإسلامية من تدخلات النظام معروف. إذا كانت ثورة الخميني قدمت نفسها أنها ثورة تصحيح وتغيير، وتورطت في مشاريع فوضوية فالمجتمع الإيراني يعيش حاليًا أجواء "ثورة على الثورة" ولا يمكن الاستخفاف بدوافع ما نراه، ولا يجوز أن يتم تقييم المظاهرات من حيث عدد المشاركين وحسب، بل علينا أن نقرأ عدد الصامتين الذين يشاركون المتظاهرين الموقف ذاته. وتكمن خطورة الموقف فيما بعد سقوط النظام، وسقوط ترسانة الأسلحة في يد ورثة غير معتدلين، أو جماعات إرهابية، وهو ما يحمل المجتمع الدولي مسئولية معالجة ملف النظام الإيراني بشكل جذري وهو ما انتبهت إليه مؤخرًا المنظمة الدولية والجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن والإدارة الأمريكية بعد وصول ترامب للسلطة، وإن بدت أغلبها مواقف غير حاسمة، تكتفى بالأقوال دون الأفعال، تمامًا مثلما حدث من الاتحاد الأوروبي الذي اكتفى بإعلان تأييده لحق الايرانيين في التظاهر. وفى أجواء كهذه يشعر الإيرانيون بأن مستقبلهم غامض، وأن طهران الرسمية ترميهم حطبًا في موقد معاركها، معتبرين احتجاجهم، رسالة أساسية، تؤكد رغبتهم في إيصال رسالة للعالم بسرعة التدخل لتخليصهم وإنقاذهم من نظام ولاية الفقيه. رغم تشديد الخبراء على أن التحركات الدولية والمواقف الإسلامية والعربية ستحسم وتحدد خلال الأيام القادمة مصير الإيرانيين. يبقى السؤال.. هل تنجح هذه الانتفاضة في كسر شوكة نظام الملالي تمهيدًا لإزالته نهائيًا، أم ستنتصر أدوات القمع والعهر السياسي، وينجح النظام في نقل المشهد الثوري برمته من داخل إيران إلى خارجها، ويحصل على فرصة ثانية، لإطفاء نار الغضب الشعبي والاستمرار في الحكم؟ أما السؤال الأهم الآن فهو: أين منظمات حقوق الإنسان الدولية والإقليمية مما يجري في إيران؟ ولماذا تلتزم كل هذه المنظمات الصمت تجاه ما يحدث من قتل وجرح واعتقالات؟ وإلى متى تستمر تلك المنظمات المفترض فيها الشفافية والحياد، منحازة على طول الخط لنظام طهران، ملتزمة فقط بازدواجية غريبة في المعاييرعند تعاطيها مع أي أزمة يكون طرفها نظام "الملالي"؟!