حسم ولي الأمر خادم الحرمين الشريفين أكثر المسائل جدلا في واقع المجتمع السعودي بعد تعليم المرأة بقراره ليلة البارحة حينما أصدر قراره التاريخي بصياغة شرعية تحمل مضامين الإسلام وتنطلق من قواعده الفقهية التي تقوم على تحقيق المناط في الأحكام. وبذلك يرفع الخلاف المتداول في هذه المسألة الاجتهادية وبخاصة بعد تأييد أغلبية أعضاء هيئة كبار العلماء بشأن قيادة المرأة للمركبة من أن الحكم الشرعي في ذلك هو من حيث الأصل الإباحة، وأنهم لا يرون مانعاً من السماح لها بقيادة المركبة في ظل إيجاد الضمانات الشرعية والنظامية اللازمة لتلافي تلك الذرائع ولو كانت في نطاق الاحتمال المشكوك فيه. ومن ينعم النظر ويمعن الفكر في الأحكام الفقهية في الإسلام يلمس عبقرية الفقه الإسلامي على مر تاريخ الأمة ويدرك أن فقهاء الإسلام كانوا كبارا في مسؤوليتهم الشرعية وربما برزت مكانة الفقهاء هذا العصر في هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية والدليل على ورعهم وتقواهم ما نصت عليه ديباجة القرار التي أكدت أنه بالأغلبية مما يؤكد على استقلالية الآراء وحقيقتها الشرعية علما أنهم يؤكدون جميعا أن هذه المسألة ليست من المسائل القطعية التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان وإنما هي اجتهادية اعتمادا على قاعدة سد الذرائع وقال بجوازها أئمة العصر عند أمن الفتنة كالعلامة ناصر الدين الألباني والعلامة مقبل الوادعي وقد ضمن القرار السامي هذا بتوجيهه الكريم لوزير الداخلية بوضع الضوابط المهمة ، فقرار خادم الحرمين الشريفين ليلة البارحة رفع للخلاف تحقيقا للمصلحة العامة التي قدرها حفظه الله بعد اطلاعه على حيثيات الواقع ونص عليها في تصريحا لا تلميحا تحقيقا للقاعدة الفقهية ( التصرف على الرعية منوط بالمصلحة).
إن بعض الذين لا يفرقون بين المسائل القطعية والاجتهادية فيتهمون بعض علماء هيئة كبار العلماء حينما تغير فتاواها في بعض المسائل تحقيقا للمصلحة بالإملاء والتقلب وعدم الاستقلالية يكتنفهم الجهل والظلم لأنهم لم يقفوا على قواعد الفقه الإسلامية الخالدة التي منها قاعدة "لا يُنْكَرُ تغيّرُ الأحكامِ بتغيُّرِ الأزمانِ" ، وهذا يؤكد على سمو روح الفقه والفقهاء في الإسلام لأنه صالح لكل زمان ومكان ، وبعض العلماء حينما تتدرج في فتاواهم فهم ينطلقون من منهج شرعي عظيم فما تم تحريمه ومنعه في وقت لتعذر تحقيق المناط فقد يجوز إطلاقه لتحقيق المصلحة في وقت آخر. فمحاذير قيادة المرأة للسيارة التي كان يخشى منها العلماء في الوقت السابق قد تلاشت بسبب الوعي المجتمعي وتطور وسائل الحياة وهيمنة قوانين الدولة بل إن وجود السائق الأجنبي مع الأسر السعودية وكشفه لأسرارها واقتحامه لخصوصيتها فيه ضرر أكبر وفساد خطير وخلل يجب أن يعالج وربما كانت قيادة المرأة السعودية للسيارة وخلوتها بأبنائها وبناتها أكثر أمانا وسلامة من وجود الأجنبي معهم وبعض السائقين الذين يتم استقدامهم عليهم ملحوظات أمنية وأخلاقية في بلادهم.
إن بعض العلماء في هيئة كبار العلماء منعوا قيادة المرأة سابقا ثم أجازوها في صورة عظيمة من صور التدرج في الفقه الإسلامي الذي يتناسب مع الدور الحضاري للأمة والمقصود من التدرّج هو تحصيل المصلحة وقال شيخ الإسلام رحمه الله :" إن الابتداء يكون في كل مقام بما يناسبه فتارة يقتضي الابتداء بالأعلى وتارة بالأدنى" ، وقال الشاطبي رحمه الله في تقرير بديع:" ومن هنا كان نزول القرآن نجوما في عشرين سنة، ووردت الأحكام التكليفية فيها شيئا فشيئا، ولم تنزل دفعة واحدة، وذلك لئلا تنفر عنها النفوس دفعة واحدة. وفيما يحكى عن عمر بن عبد العزيز أن ابنه عبد الملك قال له: ما لك لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق. قال له عمر: "لا تعجل يا بني، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتنة" ولذلك حفظت لنا المصادر التاريخية الخالدة تغير فتاوى الإمام الشافعي بين العراق ومصر حتى سماها الفقهاء مذهب الشافعي القديم والجديد دليلا على سمو الفقه والفقهاء وكذلك يردد الخلف دائما عن بعض السلف مثل هذا فيذكرون أن للإمام أحمد روايتين أو ثلاث في المسألة الواحدة وهكذا. وتبين رسالة القضاء الخالدة سمو الفقه والقضاء في الإسلام في بيان شرعية الرجوع عن بعض الفتاوى وبعض الاجتهادات وهي من سيدنا عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري قال عمر في رسالته لأبي موسى: " لا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك ، فإن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل". وروى ابن القيم بسنده ، قال : [ وعن عمر أنه لقي رجلا فقال : ما صنعت ؟ قال : قضى علي وزيد بكذا ، قال : لو كنت أنا لقضيت بكذا ، قال : فما منعك والأمر إليك ؟ قال : لو كنت أدرك إلى كتاب الله ، أو إلى سنة نبيه – صلى الله عليه وسلم – لفعلت ، ولكني أدرك إلى رأي ، والرأي مشترك ، فلم ينقض ما قال علي وزيد ] . وروي عن عمر أنه قضى في المشركة بإسقاط الإخوة من الأبوين ثم شرك بينهم بعد ذلك ، فسئل فقال : " تلك على ما قضينا يومئذ ، وهذه على ما قضينا اليوم . يقول ابن القيم : فأخذ أمير المؤمنين في كلا الاجتهادين بما ظهر له أنه الحق ، ولم يمنعه القضاء الأول من الرجوع إلى الثاني ، ولم ينقض الأول بالثاني ، فجرى أئمة الإسلام بعده على هذين الأصلين . إضافة أن بعض الأمور الاجتهادية المستحدثة لو سمح للناس مزاولتها دون ضوابط لصارت سببا للمفسدة ولكن منعها أو تجويزها تدريجيا يساعد الفقهاء على ضمان سلامة المجتمع وتصبح فيما بعد سببا لتحقيق المناط وضمانا لوجود المصلحة المعتبرة والله من وراء القصد.
عميد الموهبة والإبداع والتميز البحثي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية