قانون "جاستا" الذي أقره الكونغرس الأمريكي، يوم الأربعاء الماضي وتم بموجبه نقض الفيتو الذي وضعه الرئيس الأمريكي باراك أوباما من قبل على مشروع القانون، حدث يؤشر على اتجاه جديد في المزاج الشعبوي الأمريكي الذي أصبح يتحكم باتجاهات الرأي العام في الولاياتالمتحدة. فمن المفارقات الدالة على هذا المزاج هو اتفاق كل من المرشحين لرئاسة الولاياتالمتحدة في الانتخابات القادمة: دونالد ترامب عن الحزب الجمهوري، وهيلاري كلينتون عن الحزب الديمقراطي مع إقرار القانون الذي جاء تحت عنوان (العدالة ضد رعاة الإرهاب). محتوى القانون الجديد إذ يجيز لذوي ضحايا أحداث 11 سبتمبر 2001 رفع قضايا تعويض ضد كل من ثبت تورطه في تلك الأحداث بشتى الطرق، سواء أكان دبلوماسيًا أو مدنيًا أو عسكريًا (والمقصود بذلك المواطنون السعوديون بكافة حيثياتهم) فإنه في الحقيقة يعرض الولاياتالمتحدة للكثير من المشكلات مع أكثر من دولة. فالولاياتالمتحدة ربما كانت هي آخر دولة يمكنها أن تسعى إلى سن مثل هذا القانون لأنها الدولة الوحيدة تقريبًا التي تورطت في حروب كثيرة على مدى القرن العشرين وكان آخرها غزو العراق في العام 2003 وهو غزو ترتبت على آثاره جرائم فظيعة بحق المدنيين العراقيين. ولهذا السبب يبدو أن الكونغرس بمجلسيه انتبه إلى خطورة ما أقدم عليه من إقرار لهذا القانون، لا سيما بعد تعليق أوباما إثر إقرار القانون، ووعد الكونغرس بإجراء تعديلات مهمة على مسودة قانون (جاستا). اعتراض المملكة العربية السعودية على القانون لم يكن نتيجة خوف من احتمال تورطها أو تورط دبلوماسييها في أحداث 11 سبتمبر، فقد كشفت الصفحات ال28 السرية في تقرير لجنة أحداث 11 سبتمبر 2001، والتي دارت حولها تكهنات عن احتمال تورط المملكة في تلك الأحداث؛ كشف عن براءة المملكة من مثل هذه التهم وإنما يأتي قلق المملكة من تداعيات قانون "جاستا" أولا لما ينطوي عليه القانون من اعتداء على مفهوم سيادة الدول. وثانيًا لاحتمال سوء استخدام هذا القانون في الولاياتالمتحدة وتوظيفه لتصفية حسابات سياسية ومالية بناء على دعاوى ذات طابع لا يخلو من ابتزاز واستغلال. المملكة العربية السعودية بطبيعة الحال ستمارس ضغوطها، وتختبر ما لديها من أوراق سياسية واقتصادية في مواجهة تفعيل هذا القانون، والبحث عن كافة البدائل الممكنة في حال حدوث تحولات كبرى ضدها في الحكومة الجديدة المرتقبة بحلول شهر يناير القادم. تعرف الولاياتالمتحدة إمكانية وقدرة المملكة على اللعب بأوراقها، لاسيما في ظل الدعاية لقانون شعبوي لا يعكس المصلحة الحقيقية للولايات المتحدة. فمن صفقات السلاح الأمريكية المرتقبة مع السعودية، إلى الاستثمارات المالية، إلى إمكانية سحب السندات من الخزانة الأمريكية. وكذلك التلويح بتقليص التعاون مع الولاياتالمتحدة في مكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط؛ كلها أوراق يمكن أن تستخدمها المملكة العربية السعودية في مواجهة أي تجاوزات تتخذ ضدها بناء على استخدام قانون "جاستا" فالولاياتالمتحدة هي أول من يعرف أن من طبيعة المملكة العربية السعودية عدم التدخل في سياسات الغير سواء في دبلوماسيتها الخارجية، أو في علاقاتها مع الدول. ولأن حقيقة كهذه لا يمكن أن تغيب عن صانعي القرار في الولاياتالمتحدة وعن أي إدارة أمريكية تولت الحكم خلال ال70 عاما الماضية ؛ لذا سيتضح لنا جليا أن المزاج الشعبوي الطاغي على اتجاهات الرأي العام في الولاياتالمتحدة المتأثر بكلا من اللوبيين اليهودي بزعامة لجنة (آيباك) الصهيونية. وكذلك اللوبي الإيراني هو الذي أصبح راجحًا نتيجة للتضليل الاعلامي الذي يمارسه اللوبيان اليهودي والإيراني. صحيح أن هناك حاجة ملحة لتفعيل دور الإعلام الخارجي السعودي لخلق أوساط تأثير وأصوات عربية وسعودية مسموعة في الإعلام الأمريكي. لكن الصحيح أيضًا أن ما يجب من إنصاف سياسي للمملكة، لاسيما بعد تبرئتها عند رفع السرية عن الصفحات ال28 من تقرير لجنة أحداث 11 سبتمبر 2001، هو أمر أشبه بالحقائق التي تملك الأوساط السياسية في أمريكا القدرة على التحقق منها، بعيدًا عن أي مؤثرات إعلامية، أو ضغوط اللوبي الصهيوني والإيراني. مستقبل العلاقات بين أمريكا والمملكة في المنطقة سيتأثر بالضرورة بمفاعيل تنفيذ قانون "جاستا". وإذا ما كشفت التعديلات التي وعد بها الكونغرس حيال القانون عن تغييرات جدية جوهرية تأخذ في أولوياتها مصلحة الولاياتالمتحدة ومصلحة حلفائها، بعيدا عن أي مزايدات شعبوية وايدلوجية داخلية؛ فإن مستقبل العلاقات بين البلدين يمكنه أن يستشرف واقعًا جديدًا، لا سيما إذا ما نجحت هيلاري كلينتون في الانتخابات الرئاسية المرتقبة في أمريكا؛ واقع يمكنه تجاوز المحطات التي خذلت فيها أمريكا السعوديةَ في كل من الموقف من سوريا، والمشروع النووي الإيراني، وحرب اليمن.