هناك كتب وليس مجرد مقالات تفسر رغبة الكتابة عند أصحابها، وتتحدث عن فن الكتابة وعوالمها ودوافعها عند الكاتب، كتب جميلة ومقالات مثيرة حملت نفس العنوان "لماذا أكتب"! هل الكتابة هي هروب من الواقع وعدم قدرتنا على القيام بأي شيء غير الكتابة نفسها أم لإثبات الحقيقة، أم لتزييفها والتشكيك بها، أم أن الكتابة مجرد سجال وحوار آراء ونقاشات ولكن على الورق، هل نكتب لأننا نحب رائحة الحبر والورق كما يقول الفائز بجائزة نوبل للآداب الروائي التركي أورهان باموك، أما كما يضيف هو أيضا يكتب لأنه "غاضب من الجميع ومن العالم كله"، الكتابة عنده هي رغبة وعادة وشغف وهو ما يدفعه للانزواء بزاوية الغرفة لعيش لحظاتها. الكتابة تتعدى ذلك كله، فهي عالم قد يكون مغاير تمامًا للواقع الذي نعيشه أو نعرفه ومصادم له، عالم يختلط به حب الذات مع حزن غامض، عالم ممتلئ بالحب والشجاعة ونقيضهما الكراهية والجبن، نكتشف من خلالها عالم قديم جديد كاد يختفي من الوجود لولا الكتابة، عالم ننتقل إليه ونعيش أحداثه وأيامه مجبرين مع استمرارنا في القراءة، يتصور بعضهم أنه يكتب ليقول كيف كان يعيش ومع من يعيش، عن فلسفته وإيمانه وتفكيره، كما نقلنا الكاتب الإنجليزي كولن ويلسون إلى عالمه وكتبه وقراءته في "ضياع في سوهو". وعمومًا فدوافع الكتابة لا تذهب بعيدًا عن "حب الذات الصرف: الرغبة في أن تكون ذكياً، أن يتم الحديث عنك، أن تُذكر بعد الموت، أن تنتقم من الكبار الذين وبخوك في طفولتك"، كما يقول الروائي البريطاني جورج أورويل في كتابه "لماذا أكتب"، ولكنها تدخل وبشكل أكيد ضمن الأسباب التي سردها أورويل من إدراك للجمال الخارجي، والرغبة في مشاركة التجربة. أو بسبب "الرغبة برؤية الأشياء كما هي، لاكتشاف حقائق صحيحة، وحفظها من أجل استخدام الأجيال القادمة"، وحقيقة لا تخلو من الهدف السياسي الذي قامت كتابات وشهرة أورويل عليه، "الرغبة في دفع العالم في اتجاه معين"، المحاولة لتغيير أفكار الأفراد حول نوع المجتمع الذي ينبغي عليهم العيش فيه وإصلاحه. أما أنا أكتب من أجل القراءة، فما من كاتب جاد لا يقرأ، ومن يكتب برغبة وشغف كما يقول باموك فلا بد من القراءة المستمرة حتى نقوى على الكتابة بهذه الروح، فالقارئ الجاد والنهم لديه فيض من الأفكار والقصص ولا يستقر له بال حتى يخرجها عبر الكتابة، أكتب للتعبير عن آرائي ومواقفي التي قد تختلفون معها، ولكنها تدفعكم للتفكير، أكتب للمشاركة في الرأي العام، لنقل تجربة ومعرفة تستحق العرض أمامكم. والكتابة هي فن أدبي صعب إلى حد ما، وأساليبها متنوعة، ولكن في النهاية يجب أن تكون أداة للتعبير عن الرأي مع إعطاء القارئ فرصة التفكير وإطلاعه على ما يجهله، وفرصة للجديد وعدم التكرار للقصص والأحداث السابقة. وعبر هذا المقال أبدأ الكتابة مع صحيفة "الوئام" الإلكترونية، ولإدارتها التحريرية كل الشكر والتقدير على لطف وجميل دعوتها لي للكتابة، وستتناول كتاباتي طبعًا الشأن العام الذي يهم الجميع، إضافة للجانب الإعلامي كمراقب ومشارك، وآمل أن يجد القراء ما يعجبهم ويشحذ فكرهم ويروق لهم، وأن يتذكروا دائمًا أن الاختلاف في الرأي من جماليات هذه الحياة الرتيبة، وهو من أصول الجمال في الفكر والكتابة، وهو الأمر الذي يدفعنا للبحث والقراءة دومًا عما هو مختلف عنا، وأن يضعوا نصب أعينهم أن الاختلاف هو حق للجميع، وأنه أدب رفيع عند أصحاب الأخلاق العظيمة. إعلامي ومدير تحرير "حوار بوست"