فارق المخرج السينمائي السوري البارز نبيل المالح الحياة، بدولة الإمارات، عن عمرٍ يناهز الثمانية والسبعين عاماً، بعد صراعٍ مع مرض سرطان الرئة، ووري الثرى في مقبرة "القوز" بدبي اليوم. خلال مسيرته الفنية التي قاربت الخمسين عاماً، كان الراحل يمثل صورة السوري المثقّف، وصاحب الحضور المؤثر بالحياة والأوساط الثقافية السوريّة والعربية، بوصفه فنّاناً تشكيلياً، ومخرجاً سينمائياً، وكاتب سيناريو، في رصيده حوالي المئة وخمسين فيلماً، تنوعّت بين الروائية الطويلة والقصيرة، والتسجيلية التي كانت تمثّل بالنسبة له شغفاً خاصّاً. توجه الشاب نبيل المالح خلال خمسينيات القرن الماضي، لدراسة الفيزياء النووية بجمهورية تشيكوسلوفاكيا آنذاك، لكنّ حصوله على دور كومبارس في أحد الأفلام السينمائية، فتح عينه على أهميّة فن السينما، فلم يتردد بتحويل اختصاصه، ليتخرّج لاحقاً من معهد السينما ببراغ. وكان له مواجهات مبكرّة مع السلطات التي تعاقبت على حكم سوريا، حيث سجن في مرحلة الوحدة مع مصر، وبعد الانفصال، وكان بين الموقعيّن على إعلان دمشق سنة 2005، وأعلن دعمه مبكراً ل "الثورة السوريّة" مع بدايات الحراك السلمي في العام 2011، وبقي مناصراً لها حتى آخر أيّام حياته، ووصف صمود الشعب السوري، بال "المعجزة التاريخية". ولم يتزعزع إيمان الراحل ب "سوريا المستقبل"، رغم انتقادته في مقابلة أجراها مؤخراً مع قناة "أورينت" ل: "غياب الصوت الثقافي للثورة، وعدم تمويل أعمال ثقافية تعبّر عنها، فالثورات لا تكون بهذا الشكل، وهي تحمل صوتها، وأخلاقها، ورؤاها معها، وتلك الرؤى يجب أن تكون منتشرة بين كل من يحمل لواءها… هذه الثورة لم يكن لها لسانها وثقافتها، والأعمال الإبداعية التي ظهرت كانت أقل بكثير من حجم ما حصل." مطلع ثمانينات القرن الماضي تعرض نبيل المالح للضرب من أحد حرّاس وزارة الخارجية السوريّة، فقرر ترك البلاد، بالتزامن مع دعوة جامعة "أوستن"- تكساس بالولايات المتحدّة، له للتدريس فيها، حيث درّس مادة الإخراج السينمائي والسيناريو بعدّة جامعات، منها أيضاً جامعة السينما بلوس أنجلوس. وأقام خلال تلك الفترة باليونان لعشر سنوات، وهناك كتب سيناريو فيلمه الشهير "الكومبارس"، وعرضه على الممثل الراحل نور الشريف، الذي أعجبه كثيراً، وأمّن له فرصة إنتاجه في مصر، لكن شاءت الظروف أن يتم إنتاج الفيلم بسوريا، فأثناء زيارةٍ قام بها المالح لدمشق سنة 1991، قرأ مدير المؤسسة العامّة للسينما مروان حدّاد السيناريو، وتمسّك بإنتاجه رغم أبعاده السياسيّة، ليصبح لاحقاً من أهم الأفلام السوريّة، التي حازت جوائز عديدة (بطولة بسّام كوسا، وسمر سامي). في رصيد المالح أفلام روائية طويلة، بعضها تجاري، ومعظمها يحمل رؤى كبيرة، وقيمة فنيّة عالية، ك ثلاثية "رجال تحت الشمس" 1970، "الفهد" 1972، "بقايا صور" 1973، و"السيد التقدمي" 1974. أما الأفلام التسجيلية أو الوثائقية، فتشكّل معظم نتاج المخرج السينمائي السوري الراحل، وبعضها مُنع عرضه في سوريا، ك "حادثة اغتيال" الذي "يتعرض لمشكلة تسميم حوض نهر العاصي بالكامل، بسبب إنشاء مصفاة أو معمل سماد آزوتي على حوض النهر"، و"شهرزاد" ويتحدّث فيه عن العنف ضد المرأة، وفيلم "عالشام عالشام 2006 " ويتناول "هجرة الشباب من الريف إلى المدن بسبب الفقر"، ويتنبأ بما ستؤول إليه أوضاع البلاد. حاز نبيل المالح جائزة لجنة تحكيم مهرجان دمشق الدولي لسينما الشباب، عن فيلمه "الفهد" سنة 1972، وفي عام 2008 اختير الفيلم ذاته كواحد من الأفلام السينمائية الخالدة بحسب مهرجان بوسان السينمائي الدولي في كوريا الجنوبية. وحصد فيلم "الكومبارس" 1993 جائزة أحسن إخراج بمهرجان القاهرة، وجائزتي التمثيل من مهرجان السينما العربية في باريس، وأحسن سيناريو في مهرجان فالنسيا، وفضية مهرجان ريميني. وكرّم مهرجان دبي السينمائي المالح في دورة 2006؛ "تقديراً لإسهامه بعالم الفن السابع، وما قدمه من جهد لتطوير صناعة السينما." نعى المخرج الراحل، معظم الفنّانين السوريين، على اختلاف مواقفهم مما يجري في بلادهم، فعلى سبيل المثال كتبت النجمة السورية سلاف فواخرجي عبر صفحتها الرسمية على موقع "فيسبوك": "دافئ … حنون … محب .. نبيل المالح …حزني على رحيلك كبير … وحزني أكبر لأنك بعيد … بعيد عن الشام … وبعرفك قديش بتحب الشام ..الله معك أبو ايبلا ..". ونعاه المخرج السوري هيثم حقي، في تدوينةٍ نسرها عبر"فيسبوك"كتب فيها: "وداعاً صديقي العتيق العتيق… أي حزن هذا الذي حوّل صفحاتنا إلى أوراق نعوة الأحبة …وداعاً نبيل صديقي وشريك العمل السينمائي والثقافي خلال الأربعين سنة الماضية …من الصعب اختصار ما جمعنا معاً خلال سنين طويلة ، لكن عنوانه الأبرز مودة إنسانية عميقة … وحب للسينما … ولبلدنا وأهله الطيبين … والسعي بكل الوسائل نحو سوريا …في لقائنا الأخير في باريس حين جئت رغم المرض لحضور عرض فيلمك الجميل (الكومبارس) في النادي السينمائي السوري، ولعل الأيام الثلاثة التي قضيناها معك كانت تلويحة الوداع التي قررت الحياة أن تمنحنا إياها … حزني كبير على خسارة سوريا مبدعيها الكبار، الذين استطاعوا رغم سنوات القمع أن يفتحوا ثغرة في جدار المنع، والاضطهاد الأصم، ليرفعوا إسم سوريا ويحضّرواشبابها لثورة الحرية والكرامة … وداعاً نبيل المالح ستبقى حياتك وأفلامك (بقايا صور) دمشقية سيحتفظ بها ملء القلب والعين جيل الحرية القادم … "