حتى قبل سنوات قليلة لم أكن قط أحمل محفظة نقود، لأسباب عديدة، من بينها انني كنت أفضل حمل نقودي في جيب قميصي كي تدفئ قلبي. ولأنه حدث أكثر من مرة أن أخرجت المحفظة في محل تجاري ودفعت المبلغ المطلوب ثم تركتها في المتجر، ولكن الحياة تعقدت باسم التطور، وأصبح شخص لا يملك أكثر من ثلاثة دولارات مضطرا إلى حمل محفظة يحشر فيها مختلف البطاقات: الشخصية ورخصة قيادة السيارة والفيزا والماستر كارد وبطاقة العمل وبطاقة المستشفى وصورة إيمان بنورة/ عياد، والكروت السخيفة التي نقدمها للآخرين ويقدمونها إلينا وعليها الأسماء والعناوين وأرقام الهواتف. ويفترض من الناحية النظرية أن الحياة صارت سهلة بفضل المخترعات الكثيرة المتاحة، فقد اختفى الهاون أو كاد من المطابخ، ولم تعد إلا نادرا تجد من يسحن أو يطحن البهارات بالهاون، وحتى عندما نحتاج إلى نقطتين الليمون فإن هناك آلة صغيرة لعصره. ولكن كل ذلك لم يمنحنا الإحساس بالراحة، فقد صرنا اكثر لهاثا وتعبا نفسيا وجسديا، ويخيل إلى أن أكبر مشكلة يعاني منها معظمنا هي عدم وفرة النقود، وكلما زادت رواتبنا ومواردنا المالية انفتحت أخاديد ومغارات لابتلاعها، ليس فقط لان كماليات الأمس صارت ضروريات، بل لأننا صرنا عبيدا لشهوة التملك، فإذا كان زيد قادرا على شراء سيارة بي إم دبليو لأنه وارث وغني ولديه فلوس بالهبل، فإن الأهبل الذي يعرف كل ذلك عن زيد، يحاول مجاراته ويشتري نفس السيارة ولو اضطر الى العيش على سندويتشات الفول والفلافل خمس سنوات حتى يصاب بالإمساك والبواسير والتهاب القولون والاسهال، وحتى تسكن العناكب جيبه لانعدام حركة الصادر والوارد إليه ومنه!! قبل سنوات قليلة كان من يتقاضى راتبا يبلغ نحو 3 آلاف دولار شهريا يعتبر من الأثرياء، ولكن نفس الشخص الذي ارتفع راتبه اليوم إلى أربعة الاف دولار لا يكف عن الشكوى من ضعف موارده المالية. والمصيبة هي أننا صرنا مقلدين، فطقم الكراسي الذي ظهر في مسلسل "البالوعة والبنت الدلوعة" يصبح اقتناؤه فرض عين لأنه "يجنن" ولا فائدة من القول بأن سعره هو "اللي يجنن" وأن الجماعة في المسلسل استأجروه من معرض مفروشات والفستان الذي ظهرت به أليسا في فيديو كليب أغنيتها "عايزة منك همسة يا أحلى من الكبسة" يجب شراؤه ولو تطلب الأمر الحصول على قرض مصرفي! باختصار صار الآخرون يتحكمون في أذواقنا، لم نعد نحن الآباء والأمهات القدوة والمثال الذي يحتذي به عيالنا، فقد حل محلنا عمرو دياب وراغب علامة، ونوال الزغبي، يأتيك ابنك وقد صار رأسه مثل مؤخرة القرد فتحسب أن مكروها أصابه فيقول لك إنه طلب تلك "القَصَّة" من الحلاق اقتداء بشخص هو بالنسبة لك نكرة وبالنسبة له علم الأعلام، والملابس المبهدلة التي يرتديها عيالنا شاهدوا مثلها في فيلم أمريكي أو كمبودي،ثم ذلك العجين الشفاف المقرف الذي يجعل شعر رؤوسهم مثل المسامير. آخر تقليعة: طلب مني صغيري لؤي أن أشتري له فرشة أسنان كهربائية لأن الفرشة العادية "مرهقة"!! يريد أن تدخل الكهرباء فمه، وبيتنا في جزيرة بدين في شمال السودان لم يعرف الكهرباء حتى اليوم. رابط الخبر بصحيفة الوئام: كلما صارت سهلة صارت «صعبة»