أخشى أن "التطنيش" صار عادةً مستفحلةً في المجتمع، والتطنيش يعني ألا تكترث بمن حولك ولا تعير بالاً للأحداث مهما تعاظمت وتعقدت، ويمكن أن يقدّم بوصفه وصفةً للحصول على السعادة والرضا، فمثلاً حين ترى بائساً فإن التطنيش يساعدك على ألا تستحضر إنسانيتك حزناً على حالته والانشغال في مساعدته للخلاص من بؤسه، فلا يؤنبك ضميرك ومن ثم تشعر بالتعاسة. ولم يعد التطنيش قاصراً على أفراد المجتمع العاديين، بل صار بعض المسؤولين "يطنشون" أيضاً؛ فطالما لم تحدث "مصيبة" يضج لها المجتمع فهم "مكبرين الطاسة". وعلى الأغلب فإن "التطنيش" حالة طبيعية تظهر بسبب الجهل في تقدير عواقب الأمور، كما هو الحاصل في موضوع توظيف خريجي الدراسات العليا، فكل من له صله بهذا الموضوع "مطنّش" لا يجيب عن طلبات المشاركة أو المداخلة في البرامج الإعلامية التي تناقش المشكلة، ولا يستجيب بالتعقيب أو حتى التفنيد لعشرات المقالات الصحفية التي تناولت الموضوع من زواياه المختلفة؛ لظنهم أن خريجي الدراسات العليا هم فئة عامة في المجتمع، وغاب عن بالهم أنهم يتعاملون مع باحثين يقدّرون قيمة استخدام العقل في انتزاع الحقوق. وبإمكان الذين لا ينوون "التطنيش" عن موضوع توظيف حملة الدراسات العليا إجراء مسحٍ للمشكلة ليتبّين لهم العجب! فعدد الجامعات السعودية الحالي هو (33) جامعة يعمل فيها (15433) عضو تدريس غير سعودي في مقابل (26156) سعودياً، منها (8) جامعات تجاوز فيها عدد أعضاء هيئة التدريس غير السعوديين النصف! والغريب في الأمر أن هناك مواطنين هم مخرجات أنظمة التعليم العالي السعودي في الداخل والخارج وشهاداتهم من جامعات معترف بها وتمت معادلتها من قبل الإدارة العامة للمعادلات ولم يتم توظيفهم! فما سّر هذا التطنيش؟ لقد صّرح مدير جامعة الملك سعود الدكتور عبدالله العثمان منذ فترة أن "متوسط احتياج المملكة في المستقبل هو 90 جامعة"! ولو قدّرنا احتياج هذا العدد من أعضاء هيئة التدريس قياساً بالعدد الحالي لأعضاء هيئة التدريس في الجامعات الحالية فسوف نستنتج أن العدد المطلوب توفيره هو (124767) عضو هيئة تدريس من مختلف الدرجات العلمية. وبالرجوع إلى معدّل خريجي الجامعات السعودية عام 1430 من حملة الدراسات العليا نجد أن عددهم يقدّر بنحو (4403) خريج، أي أننا نحتاج إلى (30) سنة تقريباً للوصول إلى تغطية حاجة الجامعات التسعين التي أشار إليها الدكتور عبدالله العثمان. طبعاً نحن لم نحسب حاجة التوسّع في الجامعات الحالية، أو تغطية حالات التقاعد ولم نفترض وجود التأخر أو التسرّب الدراسي في برامج الدراسات العليا المحلية، أو توقف برنامج الابتعاث الخارجي مع العلم أن وزير التعليم العالي أشار إلى أن البرنامج سيتوقف للتقييم بعد المرحلة العاشرة، وهو ما يعني أننا قد نحتاج إلى مدة أطول من ذلك بكثير! إن التدرّج في التوسّع بافتتاح الجامعات والمعاهد أمر بديهي حتى ينسجم مع النمو الطلب على التعليم، وإحدى أهم المتطلبات التي يجب أن تؤخذ بالحسبان هي توفير الكوادر البشرية الوطنية كي لا تصبح جامعاتنا ومعاهدنا مستودعاً لعمل مخرجات المؤسسات التعليمية لدى الدول الصديقة والشقيقة وغيرها، بيد أن "التطنيش" عن معرفة سبب عدم توظيف المؤهلين من أبناء الوطن وبناته حالياً والتحقق من مدى جدية هذه الأسباب وعقلانيتها؛ سوف يسهّل للجامعات الاستمرار في سياسة التعاقد مع غير السعوديين لتلبية احتياجاتها البشرية وهو ما يرفع من معدل البطالة. وهذه دعوة لوزارة الخدمة المدنية لأن تتحمل مسؤولياتها المناطة بها في التدقيق بالطلبات التي ترد من الجامعات لمنحها الموافقة على تأشيرات التعاقد من الخارج تماشياً مع الفقرة الخامسة من قرار مجلس الوزراء رقم (74) وتاريخ 4/4/1419، الذي ينص على أن "تكون الموافقة على التعاقد وعلى طلب منح التأشيرات لمن سيتم التعاقد معهم من الخارج للعمل في الجهات الحكومية عن طريق الديوان العام للخدمة المدنية ومكاتبه الخارجية" وأن لا يتم منح الجامعات الموافقة على طلب التأشيرات إلا بعد أن يحال الطلب إلى الإدارة العامة للإحلال بوزارة الخدمة المدنية لدراسته والتأكد من عدم وجود مواطنين ومواطنات مؤهلين للوظيفة المطلوبة.
د. جهاد صالح زين العابدين خبير بمشروع الملك عبدالله لتطوير التعليم العام