في مثل هذا اليوم من العام الماضي، كتب طفل صغير يدرس في إحدى مدارس درعا عبارة "الشعب يريد تغيير النظام"، تأثرا بما يشاهده على شاشة التلفزيون من مشاهد الربيع العربي. ورد عليه آخر كاتبا على الحائط نفسه "يسقط بشار"، فارتعدت فرائص مدير المدرسة وسارع إلى إبلاغ سلطات الأمن بالواقعة. غضب مسؤول الأمن السياسي في المحافظة العميد عاطف نجيب ابن خالة الرئيس بشار، وأمر باستدعاء 16 تلميذا اشتبهت إدارة المدرسة في أن الفاعل أحدهم. وعندما أخبره بعض وجهاء المدينة بأنهم مجرد أطفال قاصرين تحجج بأنه يريد التعرف عليهم فقط وأوهمهم بأن المسألة منتهية. لكنه نكث بوعده بمجرد حضورهم فأمر باعتقالهم وصار يتهرب من مقابلة الأهالي ولا يرد على اتصالاتهم الهاتفية. عندها ذهب كبار رجال البلدة لمقابلة نجيب في أحد الأماكن العامة، وطلبوا منه حل المشكلة فلم يرض. فقام أحد الرجال وأخذ عقاله عن رأسه ووضعه على الطاولة كناية عن رفضهم الخروج قبل حل المشكلة، فنادى نجيب أحد عناصر الأمن وأمره بوضع العقال في الزبالة، فأرجع الرجل عقاله وقال لهم المسؤول المتغطرس "إن أردتم أطفالكم فأنسوهم وأحضروا لنا نساءكم لنعطيكم منهن أطفالا". لم يدر هذا "المسؤول" البذيء أنه بكلماته المتجاوزة المشينة، يحرر شهادة وفاة نظامه الفوضوي، وما توقع أن تشتعل تحت أقدام سادته وأسياده غضبا وحرقة، ولعله توهم أن يقبل الحشد الغاضب كلماته وأن يذعن لأوامره ولو جانبها الصواب. ثورة عارمة هكذا بلغت درجة الانحطاط عند رموز النظام الفاسد، وهكذا وصلت به الجرأة مرحلة الإساءة لشعبه والطعن في أعراض نسائه واستفزازه في أعز ما يملكه، وهو العربي المسلم. هكذا نزعت حكومة "الأسد" عن نفسها ثوب الحياء ورداء العفة، وتجردت من أخلاق الإسلام ومن كل القيم والأعراف. لكن لأن كرامة المسلم لا يمكن أن تمحى من قلبه، ولأن نخوة العربي لا تختفي وشرفه لا يدنس فقد ثار الأهالي في وجه المسؤول الأحمق وهموا بقتله لولا أن تدخل بعضهم وقاموا بتهريبه عبر سطح المبنى بعدما تعذر خروجه من بابه. لكن الأهالي الغاضبين لم يرجعوا إلى منازلهم ولم يرضوا بتناسي مصير أبنائهم ولجؤوا إلى الشارع واستخدموا سلاح الاحتجاجات السلمية، فكان أن اندلعت مظاهرات عارمة في كل أنحاء مدينة درعا واجهها النظام الذي فقد بوصلة الحكمة كعادته بالبطش والتنكيل، ما أسفر عن سقوط أربعة قتلى وعشرات الجرحى، لكن المظاهرات لم تتوقف، ولم تنطفئ جذوة الغضب فبقيت مشتعلة في النفوس. صلف النظام ولامتصاص الغضب الشعبي العارم لجأت الحكومة إلى الكذب فأعلنت عن فتح تحقيق في الحادثة وتوعدت بمحاسبة المسؤولين المقصرين، مع وعد بإطلاق سراح الأطفال المحتجزين، وما إن عاد الأهالي إلى بيوتهم حتى أسفر النظام عن وجهه القبيح، فاعتقل بعض المتظاهرين وأهانهم على مرأى من الناس، فعادت المظاهرات مرة أخرى فانتشرت قوات الأمن بكثافة وواجهت الحشود التي أرادت تشييع قتلى اليوم السابق والتي قدرت بعشرات الآلاف بالرصاص والغازات المسيلة للدموع، وقتلت بعضهم واعتقلت آخرين. عندها تبين للشعب أن لا خلاص إلا عبر ثورة عارمة تقتلع النظام من جذوره. فخرج بصدور مفتوحة، وهامات مرفوعة، وأيدٍ ممدودة بالحب والخير لجميع أبناء الوطن. أوصل الشعب رسالته الصادقة للعالم أجمع بصورة سلمية حضارية، مطالبا بحقوقه المشروعة ورد كرامته المهدورة وحقوقه المسلوبة. فانحاز إليه أصحاب الضمائر اليقظة والقلوب المؤمنة. لكن النظام بقي مكابرا وأصر على صلفه وإجرامه ونفاقه، ولم يقف إلى جانبه سوى العصابة المجرمة التي تشاركه حكمه، ولصوص فاسدون وإمعات يرضون بفتات الحرام والسحت. هكذا تعامل النظام الأمني المتوجس من كل شيء، والذي أدمن التعامل مع شعبه بمبدأ التخوين، واعتاد امتهان كرامة الأحرار، وتجاهل أصوات العقل ورفض الخضوع لمبدأ الحكمة، فكان حال الشعب كمن يقول لساسته "أليس فيكم رجل رشيد"؟ رهان خاسر راهنت السلطة الفاسدة على قدرة آلتها العسكرية وزبانيتها و"كلاب أمنها" وأساليبها الإرهابية وتوقعت أن تفلح في تخويف الثوار وإرغامهم على التراجع والانسحاب، لكنها تناست أن هؤلاء الأبطال تربوا في مجتمع فطري محافظ، ونشؤوا في بيئة تغلب عليها الطبيعة العشائرية التي تتمثل فيها أخلاق الرجال ونخوتهم وشهامتهم وصفاتهم العربية الأصيلة، وترفض الذل وتأبى الضيم ويبذل أبناؤها أرواحهم رخيصة في سبيل الحفاظ على شرفهم وصون مقدساتهم وحرماتهم. لم يكن في مقدور السلطة أن تعي خطل سياستها، ففاقد الشيء لا يعطيه، وافتقرت للقدرة على التعامل مع الواقع الجديد، بإجابات منطقية تستجيب للحد الأدنى من الواقعية والمنطق، وتمسكت أبواق إعلامه بخطاب عتيق عفا عليه الدهر وغاب عنه أن الجميع سواسية في المواطنة والحقوق المشتركة، سواء كان مواليا أو معارضا، وبذلك منحت السلطة من حيث لا تدري الثوار الوقود الذي أشعل الأرض تحت أقدامها وأجَّج الحريق. أساليب مرفوضة لكن الشعب الذي نفض عن نفسه غبار الخوف واقتلع من قلوب أبنائه بذور التخاذل والتراجع صمَّم على المضي قدما حتى نهاية الشوط وما له من سلاحٍ غير الإيمان بربه وقرب نصره، وما أمضاه من سلاحٍ تتهاوى أمامه أصنام المغرورين والمتألهين الذين فقدوا الثقة بأنفسهم فلجؤوا إلى كلابهم الأمنية فأطلقوها على شعوبهم. ولم ترعوِ سلطة الزيف والضلال، وبدلا من أن تسترضي شعبها في قضيته العادلة وتقوم بمحاسبة من تطاولوا عليه ولطَّخوا سمعته، فقد هدَّدت بالرد القاسي إذا لم يرجع الناس إلى بيوتهم ويوقفوا احتجاجاتهم، وما درت أن من أراد الحرية لن يقنع بالعبودية، وأن من اختار الكرامة لن يرضى بالذل. فتوتر الوضع توترا شديدا واستمرت المواجهات بصورة يومية. وقام الشعب الكريم بتحطيم جزء من صنم الأب حافظ الأسد، فهاج نظام الجاهلية الحديثة وماج، وأزبد وأرعد، وتفنن في استخدام أدوات القمع ووصل به الأمر حد مهاجمة المساجد وقصفها وتحطيم مآذنها على غرار ما حدث للمسجد العمري. اختلاف الواقع كانت تلك هي خطيئة النظام الكبرى التي أشعلت فتيل الثورة السورية، فالعقلية المتحجرة التي ترفض التعلم والتأمل وإدراك ما حل بالعالم من تغيرات معاصرة ظنت أن الطريقة التي اتبعها الأب سابقا هي الحل الأنجع، وما درت أن واقع اليوم قبل الأمس، وأن الشعب الذي ذبح بالآلاف قبل 30 سنة قد خرجت من أصلابه أجيال لا تعرف الخوف ولا ترضى بالاستكانة والمذلة، وأن العالم الذي سكت على مأساة الأمس وغض عنها طرفه يشهد اليوم تحولات لا تسمح بتكرار ما حدث. هكذا بدأت قصة الثورة التي ما زالت مشتعلة رغم مرور عام في أكثر بلدان العالم شمولية وديكتاتورية، وكانت تراكمات الماضي وأخطاء النظام سببا في اشتعال أوارها وتأجيج نيرانها. لم يكن انطلاق الثورة صدفة، فالأحداث الجسام لا تصنعها الصدف، والعقل لم يعترف يوما إلا بالأسباب والمسبِّبات، فقد كانت جذوة الثورة تتقد بين الصدور منذ وقت طويل بسبب ممارسات النظام الذي كان يتجسَّس أفراد أمنه على الناس ويحصي أنفاسهم ويحلِّل خيالات مبدعيهم وأحلام أطفالهم، ذلك النظام الذي حصر ثروة البلاد على فئة قليلة لا تمثِّل سوى تلك الأقلية البغيضة البعيدة عن توجهات الناس وعقيدتهم الصافية، فكانت كنبتة سامة في أرض خصبة معطاء أهدت العالم ورودا وزهورا وثمر. تتابعت الأيام وإصرار الشعب الأبي يزداد على مر الأيام، فقد أدرك أن النظام الذي يحكمه رغم أنفه بدأ يتهاوى ويتداعى، وأنه قدَّم أسوأ ما عنده ولم يتبق في كنانة شره مزيد. واستمرت السلطة الحمقاء تسوم شعبها كل صنوف الأذى وتمارس بحقه أسوأ أنواع العقاب الجماعي بعد أن اعتمدت على تحالف شرير غير مقدس من الجيش والشبيحة وأبواق النظام، يساعدهم ويبرر أخطاءهم كيان مجاور معزول لم يجد في الدنيا صديقا أو نصيرا، يمدهم بالمال وبالمقاتلين. استباحة المقدسات انتفخ رأس النظام الفاسد، فما كان بشَّارا، ولم يكن له من صفات الأسد نصيب. لم يحمل لشعبه بشريات، بل كان نذير شؤوم وعلامة نحس عندما رهن إرادة بلاده للغير، ورضي أن يفتح بلاد العروبة والإسلام لأحفاد المجوس ونظام الملالي، فدنسوا ثراها الطاهر ولوثوا صفاء سمائها التي أظلت بالأمس من لقنوهم أعظم الدروس. استخدم زبانية "الأسد" كل الأسلحة بدءا بالهراوات والعصي وانتهاء بالطائرات والمدافع، فوجهوها إلى صدور المدنيين العزَّل العامرة بالإيمان، وطفق النظام البائس الجبان يطارد الشباب والأطفال والشيوخ والنساء في المدارس والمساجد، فروَّع الآمنين وأرهب المستأمنين، وارتكب أقذر الجرائم. لم ير المواطنون من حكومتهم سوى استباحة المحرمات والتطاول على كل المقدسات. ازداد توحش رجال الأمن وأعوانهم فغصت المقابر بالشهداء، وامتلأت المستشفيات بالجرحى حتى بات إعدامهم هو الحل! لم تكن في عرف الأجهزة الأمنية السورية حدود حمراء لحملتها المسعورة، ودخلت في قاموس الشعب الكريم ممارسات لم يكن له بها سابق عهد مثل اختطاف الأطفال والفتيات، ولعل أكثرها بشاعة هو اغتصاب شقيقات المعارضين وقريباتهم واغتصابهن لإجبار أقربائهم على تسليم أنفسهم! سرقة الموتى سادية غير مسبوقة، قوامها الاستخفاف بآدمية الإنسان والتنكيل بالأسرى والمعارضين والرقص على جثثهم وقتلهم خلال التعذيب. حتى الموتى لم يسلموا من الاعتداء، فكانت أعضاؤهم تسرق وجثثهم تتعرض للتمثيل. كل ما لا يحتمله العقل ولا يدركه أصحاب الفطرة السليمة جرى فعله على أرض سورية، أرض الخلافة والفتوحات الإسلامية، وكأن "بشار" نسي أرض الجولان العربية التي تركها والده لقمة سائغة لأحبابه وأصحابه في تل أبيب!! لم ترحم آلة القتل الرهيبة الأطفال، فالنظام ابتكر أدوات جديدة لقتلهم ليقينه أنهم بذور الثورة ومصدر التهديد الرئيس له، فكان الأسد كسلفه فرعون الذي يخشى ميلاد طفل يقتلع عرشه وينهي عهد استبداده. وإن كان الشعب الصابر لم يفاجأ بتصرفات نظامه الهوجاء، فقد كانت صدمته كبيرة في آخرين تواطأوا معه لتنفيذ هذا المخطط الرهيب، أولهم علماء المذهب الضال الذين أفتوا بحرمة الخروج على حاكم يقتل شعبه وينتهك حرماته ويحارب عقيدته، ويقود نظاما للرعب يغتال الأطفال ويغتصب النساء ويدمر المساجد. فطالبوا بتقديم فروض الولاء والطاعة له حتى وهو يترنح من شدة التقتيل والتنكيل. كذلك صدم الشعب في مؤسسته العسكرية التي أفقدها النظام قوميتها واحتكر الدخول إليها على من يوافقون توجهاته، ولم يكتف بذلك، بل كوَّن ميليشيات الشبيحة لتكون مرادفا له. ففقد الجيش شرفه العسكري، ونسي واجبه المقدس في حماية الشعب والوطن، وتحوَّل إلى آلة قتل ودمار، ورضي بعض قادته أن يكونوا حماة للطغاة، يأتمرون بأوامر أصحاب العصابات السوداء. ذلك أنه نظام طائفي راهن على ورقة الطائفية البغيضة واستخدمها أسوأ استخدام، فأوهم من يوالونه في المذهب بأن بقاءهم مرتبط ببقائه، وهذا خطأ فاضح وكذب بواح، لأن انتصار الثورة يعني إشاعة العدل وعدم استقواء الأغلبية على الأقليات. ------------------------------------------------------------------------ المملكة أول من صدع بالحق كان العالم يراقب ما يجري ويأمل في إذعان النظام إلى صوت العقل، لكن الصبر طال والجهلاء سادرون في غيهم، وماضون في خيباتهم، بعد أن فشلوا في قراءة معطيات الواقع السياسي المعاصرة، فبدأ بعض الأحرار والعقلاء في نصح النظام، سرا وجهرا، وطالبوه بكف يده عن المدنيين، لكنه لم يستجب. تردد بعض الساسة وقادة العالم في الحديث، وعندها تحركت المملكة العربية السعودية وصدع مليكها بكلمة الحق، فكانت كلماته تحمل في طياتها النصح للنظام بالإقلاع عن ممارساته الطائشة وأفعاله المشينة، وألقى خطابا تاريخيا أذهل العالم المتردد ووجد صدى واسعا في كل أنحاء المعمورة، لكن تلك الكلمات الواضحة الصادقة لم تجد استجابة في آذان النظام الصماء، فكانت الخطوة التالية التي صفقت لها قلوب الجميع قبل أيديهم هي سحب السفير السعودي من دمشق وتبعته بقية دول الخليج والعرب فبدأ النظام يعاني العزلة والوحدة، وبدأت مؤسسات المجتمع المدني العالمية وأجهزته العدلية تتحرك حتى ضاق الحبل على نظام الجور والفساد. لم تتحرك المملكة بداعي مصالحها الخاصة، بل كان موقفها مبنيا على أساس زعامتها للعالم الإسلامي وريادتها للدول العربية، كيف لا وهي قبلة المسلمين وحاضنة مقدساتهم؟ ولم تكتف المملكة بموقفها الخاص، بل تقدمت الصفوف للتنسيق ودعت الأشقاء والأصدقاء لتوحيد الموقف، وعندما وقفت روسيا إلى جانب الباطل ورفضت رأي الأغلبية وعارضت إصدار قرار يدين زبانية "الأسد" في مجلس الأمن، لم يتردد خادم الحرمين الشريفين في إيصال صوت العرب والمسلمين عندما رفض بلهجة حازمة حاسمة دعوة الرئيس الروسي للنقاش حول ما يجري في سورية، قائلا إن النقاش كان يجب أن يسبق الموقف الروسي، وأن أي حديث لن يجدي الآن، وهو موقف استثنائي ربما لم يتوقعه كثيرون، لكن حتما ستكون له آثار إيجابية ربما تكون قد بدأت الآن في إذعان روسيا للتنسيق مع الجامعة العربية مؤخرا. عام كامل مر حتى الآن منذ خروج الثورة من أكمامها، ما زال الشعب المؤمن يواصل جهاده نحو الخلاص، وبينما يزداد إيمانه بعدالة قضيته تتهاوى أركان نظام الحكم الفاسد واحدا تلو الآخر. ربما تكون فاتورة الخلاص باهظة أو مكلفة، لكن كل ليل لا بد من فجر يعقبه، وكل ديكتاتور لا محالة زائل. سيكتمل بدر الحرية ليضيء سماء بلادهم التي كانت ذات يوم قبلة الدنيا ومحط أنظارها وسينفض سامر الطغاة والمغامرين والمقامرين، و"سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون".