عندما أوقف وفد عسكري مصري زيارته الرسمية بشكل مفاجئ إلى الولاياتالمتحدة في أوائل فبراير الماضي، وسط غضب عارم حول قيام الحكومة المصرية بالتحقيق في نشاطات عدة ناشطين أميركيين في منظمات غير حكومية، اضطر الوفد لإلغاء عدة اجتماعات عالية المستوى مع عدة أعضاء في مجلس الشيوخ الأميركي. وقد فوجئت جهات أميركية متعددة بالجدل الدائر حول نشاط المنظمات الأميركية غير الحكومية في مصر. وتتهم السلطات المصرية بعض هؤلاء الناشطين بإثارة الشغب في البلاد، وهم يعملون لصالح منظمات مثل المعهد الجمهوري الدولي (IRI) وبيت الحرية (Freedom House)، وقد تم منع بعضهم من مغادرة البلاد منذ ديسمبر الماضي، بعد أن قامت قوات الأمن المصرية بتفتيش مكاتبهم في القاهرة. وقد نشرت "مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي" في فبراير الماضي تقريراً عن أزمة المنظمات غير الحكومية بين الولاياتالمتحدة ومصر جاء فيه أن الحملة المصرية على المنظمات غير الحكومية الأميركية، ورد الولاياتالمتحدة بالتهديد بقطع المساعدات العسكرية لمصر، أدت إلى تفاقم أزمة قد تلحق الضرر بالعلاقات الثنائية بين البلدين. ولذا، اقترح التقرير على الجانبين الكف عن استفزاز بعضهما بعضا، والتركيز بدلاً من ذلك على الكيفية التي يمكنهما من خلالها نزع فتيل الأزمة واستعادة العلاقات الطبيعية، لأن ثمّة كثيرا من الأمور على المحك. يقول تقرير كارنيجي إن مصر مهمة بالنسبة إلى الولاياتالمتحدة. فهي أكبر بلد في الشرق الأوسط، على الرغم من أنها ليست مؤثّرة مثلما كانت في السابق. كما أنها وقَّعت معاهدة سلام مع إسرائيل تريد الولاياتالمتحدة المحافظة عليها. صحيح أن السلام بين إسرائيل ومصر كان دائماً سلاماً بارداً جداً، وليس من المرجَّح أن يتحسَّن الوضع قريباً، إلا أن هذا السلام البارد يبقى مع ذلك أفضل من عدم وجود أي سلام البتة. كما تحتاج مصر إلى الولاياتالمتحدة. ولا يتعلَّق هذا الأمر فقط بالمساعدات المباشرة التي تقدِّمها الولاياتالمتحدة، بل أيضاً لأن واشنطن قادرة على التأثير في قرارات صندوق النقد الدولي بشأن ما إذا كان سيمنح مصر أم لا الدعم الذي هي في أمسِّ الحاجة إليه في هذه الفترة من التدهور الاقتصادي وتراجع احتياطي النقد الأجنبي في البلاد. اندلعت الأزمة في العلاقات بين الولاياتالمتحدة ومصر بسبب الغضب المصري إزاء حقيقة أن المنظمات غير الحكومية الأميركية عملت بشكل جريء في مصر على الرغم من أنها لم تكن مسجًّلة رسمياً. وممّا زاد الطين بلّة في عيون المصريين، أنه يجري تمويل هذه المنظمات غير الحكومية بأموال أميركية مخصصة للمساعدات الاقتصادية لمصر، وهي أموال، وفقاً لاتفاق بين البلدين، يمكن أن تذهب فقط للمنظمات غير الحكومية المرخَّص لها من الحكومة المصرية. من وجهة النظر المصرية، غيَّرت الولاياتالمتحدة فجأة قواعد اللعبة التي كانت سارية على مدى سنوات، عندما بدأت بصرف كميات كبيرة من المساعدات الاقتصادية للمنظمات غير الحكومية الأميركية بعد الإطاحة بنظام الرئيس مبارك. من الصعوبة بمكان معرفة الأرقام الدقيقة، لكن يبدو أن مبلغ 50 مليون دولار تقدير معقول. من وجهة نظر الولاياتالمتحدة، مصر هي التي غيَّرت قواعد اللعبة، حين أغلقت فجأة المنظمات التي سمحت لها ضمناً بالعمل من دون إذن. وما لبثت أن تفاقمت الأمور بسرعة وخرجت عن نطاق السيطرة، مما أثار تصريحات حادة من كلا الجانبين. فمصر كانت تحتج على انتهاك سيادتها الوطنية، في حين يبدو أن الولاياتالمتحدة تميل إلى تحويل قدرة المنظمات غير الحكومية الأميركية التي تروِّج للديموقراطية على العمل في مصر إلى محكّ اختبار لتقييم التقدم نحو الديموقراطية، من شأنه السماح بالإفراج عن المساعدات العسكرية. يتعيَّن اتخاذ خطوات من كلا الجانبين، وعلى وجه السرعة، لوقف التدهور في العلاقات الذي لا يخدم مصالح أحد. وإذا لم يكن بمقدور الولاياتالمتحدة إصلاح علاقاتها مع المؤسسة العسكرية المصرية، فسوف تجد نفسها معزولة تماماً ومع عدد قليل من الأصدقاء في مصر. إذ تسيطر جماعة الإخوان المسلمين (التي بدأت واشنطن للتوّ التعرُّف عليها) والسلفيُّون الذين يعادون الولاياتالمتحدة بشكل صريح على البرلمان الجديد. أما الأحزاب العلمانية التي تشعر الولاياتالمتحدة براحة أكبر في التعامل معها، فهي متشرذمة ولا تتمتع بتأييد كبير في الشارع المصري. إن المحاكم المصرية تنظر الآن في قضية المنظمات غير الحكومية. ومهما يبدو الأمر صعباً، لا ينبغي للولايات المتحدة أن تطلب من الجيش التدخُّل في شؤون السُلطة القضائية لرفض النظر في هذه القضية. فاستقلال القضاء هو أحد مبادئ الديموقراطية التي تحثُّ عليها الولاياتالمتحدة. كما أنه من السابق لأوانه أن تقطع واشنطن المساعدات العسكرية. لكن، ينبغي على الولاياتالمتحدة أن تطالب بالإسراع في البتّ بالقضية إلى أقصى حدِّ ممكن. من جانبها، تحتاج الحكومة المصرية إلى تخفيف حدّة لهجتها، والتوقف عن صبِّ الزيت على نار نظريات المؤامرة المنتشرة في القاهرة بشأن ما كانت تقوم به المنظمات غير الحكومية الأميركية، ومحاكمة المشتبه فيهم على أساس أضيق انتهاكات القانون وأكثرها وضوحاً، مثل العمل بموجب تأشيرات سياحية. وينبغي أن تنظر مصر في ما إذا كان ثمة حاجة لأن يبقى كل المتهمين في البلاد حتى انتهاء المحاكمة. قبل كل شيء، يجب أن يضع كلا الجانبين في اعتبارهما أن مستقبل العلاقات الثنائية بين البلدين أهمَّ بكثير من مستقبل المنظمات غير الحكومية الأميركية في مصر.