تحمل السبعينية الحاجة "فاطمة" بين جنباتها تاريخ خمسة عقود (50 عاماً) من العمل، هي أرملة العم "علي هبل" الذي بدأت معه مسيرة الحياة المهنية من منزلها السابق (مقر الكوبري حالياً قبل الإنشاء) عندما قدمت للمملكة في عهد الملك سعود، لتبدأ من هذه المرحلة بوادر حياة مختلفة استمرت لليوم. مشروعها التجاري الذي استمرت فيه طوال هذه العقود كان بيع "المقلية الشعبية"، في الجزء الجنوبي من جدة، وتحديداً في حي السبيل على امتداد شارع الستين العام، وتحت لوحة "رقم 226 زقاق عين الضلع" المقر الرسمي لشركة الحاجة فاطمة وأبنائها الاثني عشر "سبع بنات وخمسة بنين". لم تحتج "أم محمد" لعمل ديكورات لمحلها المطل على الشارع لتصنع لها بريستيج أمام جمهورها، فكل ما احتاجت إليه حينئذ هو تصريح خاص من البلدية يسمح لها بمزاولة المهنة، وبسطة خشبية، ومقلاة، وبضعة براميل صغيرة بداخلها الحوائج من "حمر وشطة منزلية"، وقصعة صغيرة تحمل فيها النقود. يدها اليمنى في مركزها التجاري على الشارع هو ابنها "عمر" ذو الستة والثلاثين ربيعاً، يقول دون أن يتوقف عن البيع للزبائن: "تربينا جميعاً من هذه البسطة التي تديرها والدتي، التي كفتنا لوازم معيشة الحياة، وجهزت أخواتي وإخواني للزواج"، وبلغة يملؤها التقدير يرسل رسالة مباشرة مؤكدا أنهم جميعاً يفتخرون بأمهم، ليس هم فقط، بل حتى الزبائن يشتركون معهم في هذا التقدير والاعتزاز. مقادير "المقلية" عبارة عن"دجر، ودقيق، وكرات، وملح، وكمية صغيرة من الخميرة السريعة"، إلا أن لها خلطة سرية عجيبة تضاهي به المطاعم الكبرى الموجودة في المنطقة، فزبائنها يقدمون إليها من كل حدب وصوب، من تبوك، والطائف، وحائل، والرياض وغيرها من المدن، خاصة أثناء الإجازات الرسمية، حيث يتزايد عددهم. زبائن "مقلية" فاطمة لكل منهم قصة مختلفة يحكون هم تفاصيلها، فمنهم من يتردد على المحل من 8 سنوات، ومنهم من يتردد عليه من 40 عاماً، فإبراهيم الأهدل الذي يعمل بإحدى شركات الدراسات ظل يتردد على "السيدة العجوز المباركة" – وفقاً لقوله- منذ 15 عاماً، وهو يأتي لها من حي النزلة، ويتذكر الأهدل حلم الصغار ومأكولات الحارة كلما توجه صوب "الحاجة فاطمة" مستطعماً مقليتها الشعبية الممزوجة ببهاراتها اللذيذة. أما هاني الباشا فيأكل عندها منذ أكثر من 10 سنوات، يقول: "مقليتها والله شيء مميز جداً لا يعلو عليه، تعبر عن أصالة الطعم الحقيقي الذي افتقدناه من مطاعم الوجبات القديمة"، يتداخل معه في قصته عبد العزيز فطاني مسؤول ببلدية العاصمة المقدسة وجدناه يأكل وهو يقول إنه يتردد عليها عند مجيئه لجدة، وذلك منذ 16 عاماً. أما العسكري بقطاع الحرس الوطني، فايز الشمراني، فهو يداوم على أكلة مقلية الحاجة فاطمة منذ 13 عاما، وله قصة مختلفة نوعاً ما عن سابقيه، وهي قصة تؤكد عشقه لمقليتها، ففي اليوم الثالث من زواجه لم يرغب في تناول أكل "المطاعم الفاخرة" كأي عريس في شهر العسل، فوجد نفسه يقود سيارته متجهاً نحو مقلية الحاجة فاطمة. تحتفظ الحاجة فاطمة بقصعة حليب صغيرة كجهاز كاشير تحتفظ فيه النقود، ظلت تلازمها منذ عام 1990 أي ما يقارب عقدين من الزمان، وترفض أن يجلب لها أبناؤها أي شيء يحفظ لها النقود، حيث تولت أكثر من مرة لحمها وتقول: "هذه بركة، ولن أسمح لأبنائي باستبدالها إلا بعد انتقالي لجوار ربي، حينها فقط أسمح لهم بذلك". تبدأ "فاطمة" في تجهيز احتياجات عملها في الساعة العاشرة صباحاً، حيث يجلب نجلها عمر مؤونة العمل، وتشتكي من ارتفاع معدل التضخم في أسعار السلع، والذي أثر على كميات بيع المقليات، فبعد أن كان سعر 10 حبات بريال واحد تناقص العدد إلى 5 حبات، وفقاً لمتطلبات وظروف السوق. الإقبال الكبير عليها دفعها إلى استئجار محل صغير بجوار بسطتها لمن أراد أن يتناول وجبته عندها. بين ثنايا حديثها تتذكر الحاجة فاطمة الأديب الراحل عبد الله باهيثم الذي كتب عنها قبل خمسة وثلاثين عاماً في إحدى المجلات المحلية.