أهدى المرحوم غازي القصيبي كتابه "ألزهايمر"، الصادر عن دار بيسان في بيروت عام 2010 "إلى أصحاب القلوب الذهبية الإخوة والأخوات أصدقاء مرضى ألزهايمر"، واختار لكتابه أن تجري أحداثه على شكل رسائل من يعقوب العريان إلى زوجته، ليعتذر منها عن إخفاء إصابته بمرض ألزهايمر، إلا بعدما تم تشخيص المرض وطلب من الطبيب أن يحجز له مكانا في أحسن مكان لعلاج ألزهايمر في أميركا، مرفقا ذلك بالكلمة السحرية التي تفتح أبواب بلاد العم سام، موجها الكلام إلى طبيبه "التكاليف لا تهم". وفي شكل السرد الذي اتبعه القصيبي عودة إلى أسلوب صعب للغاية في الرواية، وهو الرسائل، حيث يتقدم الزمن خطيا إلى الأمام، لكن الاستطراد الضروري في هذا الأسلوب يشكل عقدة، وتبدو ضرورة الاختزال عقبة في وجه من لا يجيد السباحة في المياه الضحلة، إذ عليك أن تعوم وتسبح دون أن تلامس الأرض، ودون أن تتمكن من الاستراحة بالوقوف على قاع الماء، فالتصدي للقول في قضايا كبرى يعتبر سقطة في السرد هنا، إلا إذا كان الأسلوب تهكميا كما هو عند القصيبي هنا، أو عند دوستويفسكي في رواية "المساكين"، التي يستغرق فيها الكاتب في السخرية المرة من الفقر، ويخاطب أبطال الرواية أهلهم ومن يحبونهم خطابا رسميا، لكن الرواية تقدم الحياة كمجموعة "اعترافات": ماذا أكل وماذا شرب، وكم كوبيكا (جزء من مئة من الروبل) كسب، وكم أنفق، وكم وجبة قفز عنها بسبب الإفلاس،.. إلخ من اعترافات الفقر الكافر! وهذه تستغرق، حتما، دموع القارئ، حين يظهر عجز أبطال الرواية عن الدفاع عمن يحبون في مواجهة الفقر. كما أن أسلوب الرسائل في السرد الروائي يتيح للكاتب إمكانية الاعتماد على أكثر من راوٍ في تقديم الحدث، ومن هنا يمكن أن يتسع المكان مع تعدد الرواة، إضافة إلى أن الزمان يتشظى اعتمادا على الزاوية التي ينظر من خلالها الراوي. يبدأ بطل الأقصوصة، يعقوب العريان، باكتشاف نسيانه أشياء لا يمكن نسيانها، مثل عطر زوجته، بل اسم زوجته الأولى أيضا. وفي رسائله إلى زوجته، يقص العريان الحكايات، ويورد معلومات عن المرض، وأصل اكتشافه وتسميته، وعن محادثاته الطريفة مع الطبيب، ومع المرضى، وعن وجدانيات يرسل بها إلى زوجته، في محاولة للتأكد من أن ذاكرته لا تزال تعمل، ولم تُصب بالعطب تماما، إلى أن تنتهي الأقصوصة بموت العريان، ووصول تلك الرسائل، جميعا، إلى زوجته، مرسلة من صديقه الطبيب جيمس ماكدونالد. ويشرح العريان لزوجته أن مرض ألزهايمر كان يُعرف عند العرب باسم "الخرف"، أو "العته". إلا أن أحد الجراحين اكتشف العلة في مخ مريض لم يتقدم به السن، بينما الخرف التقليدي مرتبط بأرذل العمر. وهكذا أصبح مرض ألزهايمر يشير إلى الخرف الذي يجيء قبل أوانه. إلا أن الأبحاث الحديثة أثبتت أن مرض "ألزهايمر" قد يجيء متأخرا شأن الخرف تماما. وجريا على عادة القصيبي، في كتبه وأشعاره، يتميز هنا أيضا بخفة الروح، وإيراد الطريف في الحوادث، وفي طريقة كتابتها، ففي حديث للعريان مع طبيبه، وقد تقمص الأخير دور مريض ألزهايمر، وادعى أنه هنري كيسنجر وزير خارجية الولاياتالمتحدة الأميركية في عهد الرئيس نيكسون، يتحدث الطبيب جيمس ماكدونالد عن حرب 6 أكتوبر عام 1973. ولعل القصيبي أحد الأدباء العرب القلائل الذين تطرقوا لعلم المستقبليات، في مواضع من كتاباته، حين يسعفه السياق بذلك، دون إقحام أو تنظير، وهنا ينطلق في عرض فكرته من الماضي الذي يبدأ مرضى ألزهايمر بنسيانه، ليقول "إن المبالغة في الاهتمام بالماضي تحد من قدرة الإنسان العربي على النظر إلى المستقبل". لا يختلف ما يقدمه القصيبي هنا من حيث الأسلوب عما قدمه في كتبه النثرية الأخرى، من حيث أن حس الفكاهة موجود دائما، كما لا يبتعد القصيبي هنا عما قدمه في كتاباته الشخصية التي تقترب من المذكرات غير الكاملة، في عمله كوزير، أو سفير. وأما الفرق فهو في مساحة التخييل، حيث نتوقع أن جزءا مما جاء من آراء سياسية يستند إلى واقع عاشه القصيبي، وهنالك جزء تبدو فيه سمة الاقتباس راجحة، من خبرات الآخرين التي عايشها أو قرأها، وهو في كلتا الحالتين يذهب بالقارئ إلى وقت ممتع ومفيد، وهما غايتان للأدب، لا يكتمل إلا بهما.