ما بكى صاحبي لأنه رأى الدرب دونه كصاحب امرئ القيس وهما ذاهبان إلى قيصر، ولا بكى لأنه وجد في صدره حرجاً، وفي نفسه ضيقة، وفي قلبه حسرة وهو يشاهد آلة الحرب والتدمير في السماء والأرض والبحر وهي تقتل وتدك وتسفك الدماء وتفتت الشجر وتقطع أوصال البشر في كثير من بلدان الوطن العربي، ولا وهو يرى المقيدين في السجون والذين تكوى جنوبهم وجباههم وتحرق وجوههم، وتخرق رؤوسهم بالمثاقب، ولا وهو يشاهد طفلاً مبتور الساق، مقطوع اليد، مخلوع العين، مشطور الرأس، ولا أمّاً تحثو التراب على رأسها داخل دخان القصف الذي أتى على بيتها وزوجها وأبيها وابنها، فلا يجد شيئاً يفعله أو يلوذ به إلا البكاء. لا... صاحبي هذا شخص آخر، وبكاؤه لسبب آخر، إنه رجل ثري يعتني بنفسه غاية الاعتناء، يتأنق غاية التأنق، ويحاول أن يجدد صباه، فكثيراً ما أدخل تحسينات كثيرة و«دوكرة» على وجهه وشعره، وكثيراً ما وقف أمام المحال التجارية يختار اللباس المناسب كي يبدو في أوج الشباب وعنفوانه حتى يخيل إليك أنه من بقية نبلاء العصر الفيكتوري. في يوم شتائي ذهبنا سوية إلى مطعم مطل على غابة خضراء يتوسطها نهر أبيض كأنه يسيل بماء الفضة، فلما دخلنا المطعم خلع معطفه الغالي (الثمين) وملحفة رقبته الحمراء المخملية ووضعها على ظهر الكرسي وأسند يديه الانيقتين على الطاولة، وأشار بكفه ذات الساعة الثمينة والخاتم الألماسي البراق طالباً النادل، أقبلت فتاة غضة، بهية هيفاء، رشيقة، حلوة العينين، لذيذة المبتسم، أقبلت كغزالة مرحة وانحنت أمامه وقالت: مرحباً أيها الشيخ الوسيم، احتبست انفاسه واحتبست الكلمات في حنجرته، وأصيب بصدمة هزت كيانه، وأصابته بانهيار نفسي مفاجئ فلم يكن مطلقاً يتوقع مثل هذه التحية الوقحة، ويبدو أن المسكينة، بل من المؤكد أنها لم تقصد إهانته وإنما إجلاله وفقاً لسنه ولمنظر الأبهة التي يبدو فيها. واحتارت الغزالة وهي تنتظر الجواب، فما كان جوابه إلا نظرات من عينين زائغتين مكسورتين... التفتت إليّ فتوليت الأمر وطلبت ما أعرف أنه يرغب في أكله، وما تشتهيه نفسه التي انصدمت وران عليها الحزن والكدر، وبعد أن ذهبت نظر إليّ نظرة حزينة تذكرت فيها قول الشاعر: نظرت إليك بحاجة لم تقضها نظر السقيم إلى وجوه العوّد أخذ منديلاً ومسح دمعة انزلقت غصباً من عينيه، فقلت: ما بك.. وما الذي دهاك؟ قال: الكلمة يا صديقي شطرتني نصفين، هل بلغت من السن أن أعتبر شيخاً في نظر هذه الحسناء!؟. هل دخلت المرحلة القاتمة من العمر فلا صبوات والا نزوات ولا عشق ولا عشاق!؟ هل أصبحت من سقط المتاع في نظر الصبايا والفاتنات!؟ ما أبخس حياة الإنسان عندما يبدأ بنزول سلم أرذل العمر.. ماذا تنفعني أموالي.. ماذا تنفعني تجارتي وقد أخذ يأفل عصر الملذات؟! لماذا أركض وأجري وألهت وراء جمع المال والاستزادة؟!. قلت: هون عليك يا صديقي، فلست بقادر لا أنت ولا من على وجه الأرض أن يوقف ساعة العمر عن اللف والدوران والذي تنطوي معه ايامنا وأعمارنا، ثم لماذا تعتبر التقدم في السن عيباً!! إذ لابد مما ليس منه بدّ، ثم يا صديفي هل رأيت - كما قيل - ثوراً أصابه الشيب والصلع!؟. لابد لك ولي وكل شخص منا أن يقبل المرحلة التي نعيشها طائعين أو كارهين، وأن نتقبلها مغتبطين، خير من تذراف الدموع، والتأفف وبث الوجد، ولست أول جازع، ولا أول فزع من رحيل الصبا.. ولا أول المستعبرين عند توديع الشباب. فقد توجع قبلك ذلك الشاعر الذي ضحك برأسه المشيب فبكى: لا تعجبي يا سلم من رجل ضحك المشيب برأسه فبكى خرج صديقي وهو يلف جسده بمعطفه الأنيق، وعنقه بشاله الأحمر، أما روحه فقد لفتها سحابة من حزن وكدر وكمد ثقيل بسبب تلك الكلمة اللئيمة من تلك الغادة الحسناء والتي قوّضت هيكل الشباب أمام عينيه دفعة واحدة.. وكم من كلمة عابرة هي اشد وقعاً وأكثر فتكاً من كل أنواع السكاكين والرماح أيضاً.