على ارتفاع 3100م يتسنى لك أن تعيش فصول السنة خلال يوم واحد وتستمتع بخضرة الأشجار والأزهار على نغمات خرير شلالات فريدة.. هناك على بعد 25 كلم شمال غرب مدينة أبها تنتصب قمة السودة بارتفاعها الشامخ متخللة السحاب. قمة عشقها زوارها مثل سكانها، تغزّل فيها الشعراء وتغنّى بها المطربون، علاقتها مع السحاب متعانقة، والندى مع كل إشراقة يلمع على أشجارها وأزهارها التي صبغت السودة بألوانها، كما أن حكايتها مع المطر الغزير فريدة. كانت السودة مقصدا للسكان المجاورين لها للاستمتاع بجمالها ونقاء نسيمها صيفاً، والتلفاز عرف العالم الخارجي بها، وكانت مكتفية ذاتياً وأهلها لا يخرجون منها إلا للحج.. زائرهم يكون ضيفا لمدة 3 أيام، وساكنات القرية يلبسن "الشيلة" للدلالة على أنهن متزوجات، والعذارى يتزينّ بالمنديل "الأصفر". منازل دفاعية عمرها تجاوز القرون الأربعة.. بنيت منازلها كحصون دفاعية متجاورة ومتراصة البنيان مكونة من دورين إلى ثلاثة أدوار، يسكن كل دور عائلة، على عكس ما كان متعارفا عليه في المنطقة، حيث يسكن كل منزل أسرة واحدة فقط. بنيت المنازل بالحجر والطين الأحمر، وما زالت قائمة إلى وقتنا الحاضر.. منازل القرية مجتمعة توحي إلى ناظرها بسفينة جاثية على قمة جبل، رغم أنه في بداية الأمر لم يكن هناك سوى منزل واحد، وتعاون سكان القرية في بنائها منزلا منزلا، وهذه القرية التي لا تتجاوز مساحتها أكثر من 4 آلاف متر مربع، انتشر اسمها ليشمل كل القرى المجاورة لها وغطى على كل المسميات. رأي حكيم في بداية الأمر كانت الأسر تسكن في قرى متفرقة ومتباعدة، وكانت الحروب قائمة وغزوات إحراق المنازل ونهبها وسرقة المواشي بين حين وآخر، وهو ما جعل عددا من الأسر تستنير برأي رجل حكيم عندما سألوه عن كيفية الحصول على الأمان على النفس والمال والولد في ذلك الزمان، فأرشدهم إلى التجمع والسكن في قرية واحدة، وقال لهم "إن كنتم تريدون الخيل ومعانقة الأغنياء فاسكنوا تلك الهضبة – ملوحاً بيده إلى موقع مجاور لقرية السودة الحالية والمعروف بمتنزه بشار الآن - وإن كنتم تريدون الأمن والعزة وكرم العيش فاسكنوا هذه الهضبة السوداء – موقع السودة الحالي-"، ومنذ ذلك الزمن وهي تسمى سودة. قصبة الحراسة واتفقت الأسر وقتها على بناء منازلها في السودة، ولأن الخوف كان يدب في كل مكان اتفق الجميع على بناء منازلهم متجاورة وصمموا طرقا تمر بجميع المنازل دون الخروج من القرية، ووضعوا على القرية 4 أبواب ثم أضافوا بابين لاحقاً. وتعاون السكان على بناء جميع منازل القرية، ولما أتموا البناء عمدوا على حراسة القرية متناوبين للبقاء في بناية كبيرة بجانب القرية تعرف "بالقصبة" وهي بناية مجاور للقرية ذات ارتفاع شاهق ونوافذ صغيرة، تطل على جميع الجهات، وبهذا أصبحت القرية آمنة لا يدخلها إلا أهلها ومن يخرج منهم ليلاً، خصوصا عقب صلاة العشاء، يعرض نفسه للعقوبة التى يصدرها نائب الجماعة، خصوصا أن مسجد القرية ملاصق لها مباشرة. سوق القرية يقول نائب السودة وأحد وجهائها، الشيخ محمد بن معدي آل مشاوي (125) عاما، وهو نائب منذ قرابة 55 عاما، إن سوق القرية يوجد في المنتصف بين المنازل في مكان لا تتجاوز مساحته 600م2 يعرف بالبسطة، وهو السوق التجاري للقرية في ذلك الوقت، مضيفا "والذي يريد عرض سلعته يبسطها في ذلك الموقع (البسطة ) داخل فناء القرية"، وعن سبب التسمية قال "لأن التجار كانوا يبسطون بضاعتهم في ذلك الفناء فتعارفنا على التسمية". أنفاق سرية وحول بناء المنازل سابقاً قال آل مشاوي: ترتبط منازل القرية بممرات تعرف ب"السِدد" أو"السدة"، وهي "طرق تمر من تحت المنازل تشبه إلى حد كبير الأنفاق في وقتنا الحالي، ومترابطة بشكل هندسي يمكن الوصول من خلالها إلى جميع أجزاء القرية، وكانت تصمم منخفضة الارتفاع وبها منحنيات وارتفاعات لا يعرفها إلا سكان القرية، ومن يأت من خارجها لا يخرج من تلك السِدد إلا مصابا. وأضاف "وكان سكان القرية يزورون بعضهم بعضا ويؤدون الصلاة في مسجدهم والذهاب إلى وسط القرية ويقضون مستلزماتهم عبر هذه الطرق"، وتابع "وكان لهذه السِدد مسميات مثل سدة آل طائف وسدة المسجد وسدة آل زايد، والمقصود طريق كذا وكذا، وهي ما زالت معروفة إلى يومنا هذا". الحياة الاجتماعية يقول آل مشاوي: لقد كانت القرية مكتفية ذاتياً، وأضاف "كنا نزرع الأرض ونأكل من إنتاجها ونربي المواشي ونؤمن حاجتنا من المياه، فلم نكن نخرج من القرية إلا للضرورة القصوى. وكان أغلب من يخرج من القرية يذهب لأداء فريضة الحج"، وهنا يتذكر فرحة الحاج بعودته إلى القرية وفرحة أهالي القرية به بقوله "كان العائد من الحج يُحتفى به بطريقة خاصة، حيث كانت تقام الولائم له ويقوم هو بتوزيع الهدايا التي جلبها من مكةالمكرمة". وعن الحياة الاجتماعية في القرية، قال "الحياة كانت بسيطة، لم يكن عدد سكان القرية يتجاوز 80 من الذكور والإناث، وكانت كلمتهم واحدة ويتعاونون في الزراعة والحصاد وتنقية المحاصيل والسقيا، والنساء يشاركن الرجال في كل شيء، وكن يقدمن الطعام والماء للرجال الذين يبنون المنازل أو يزرعون أو يحصدون أو يحفرون الآبار، وهن مرتديات الحجاب الذي يغطي الرأس فقط، لأننا كنا كعائلة واحدة ونعرف بعضنا البعض"، واستدرك "وكانت النسوة يجلبن الحطب على ظهورهن، ويجلبن الماء من البئر أو العيون الجارية التى كانت تتفجر في أكثر من موقع، ويتم جلب الماء في "الداوة" المصنوعة من الجلد -القربة- وكانت الواحدة تكفي ليوم كامل، رغم أنها لا تتجاوز 40 لترا، ورغم وفرة المياه كان الناس يقتصدون في ذلك". وأضاف "كنا نؤدي الصلوات بمسجد القرية وفي وقتها ولا يغيب أحد، وكنا نجتمع في بهو المسجد لأخذ الرأي والمشورة بوجود نائب الجماعة وهو سيد القوم، وكان لنا في ذلك البهو قطعتان خشبيتان فوق بعضهما البعض بينهما فتحتان متوسطتان تسمحان بوضع القدمين بينهما لسجن ومعاقبة من يتجاوز أو يخرج عن رأي الجماعة، وكان في وسط القرية البسطة -السوق التجاري - الذي لم تكن مساحته تتجاوز 600 م2 وكان هناك يوم سوق يعرفه الجميع". وتابع "والسودة معروفة بجودة محاصيلها الزراعية، خاصة البر والشعير والذرة والعدس، وكان يحضر لنا التجار والمشترون من أماكن بعيدة يحملون بعض الفواكه ونتبادل معهم المحاصيل، حيث لم تكن العملة النقدية أساسا للبيع والشراء". وبين ابن معدي أن السودة كانت نقطة وصل بين تجارة رجال ألمع ومدينة أبها في ذلك الزمن، وقال: كان التجار يمرون عن طريق السودة وبذلك يعتبرون ضيوفا، وفي ذلك الوقت كان من يمر على القرية يعتبر ضيف الجميع لمدة 3 أيام. "الخالية" والمتزوجة وبين الشيخ محمد بن معدي أن المرأة كانت تتميز بزيها التقليدي المعروف، وكان الغريب أو المسافر أو الزائر للقرية يجد المرأة تقوم بدور الرجل من استقبال وكرم وضيافة.. تقدم له واجب الضيافة كنصفها الآخر، الرجل، وكان الضيف أو الزائر يعرف أن هذه المرأة متزوجة أو عذراء من زيها، وقال "المتزوجة تلبس على رأسها الشيلة، سوداء اللون، والبكر العذراء التي لم يسبق لها الزواج تلبس على رأسها المنديل الأصفر ويطلق عليها (خالية)، أي شابة لم يسبق لها الزواج". السياحة في وقتنا الحاضر ويتابع ابن معدي أن مفهوم السياحة لم يكن موجودا بهذا المسمى إلا منذ زمن قريب جدا، ولكن السودة عرفت السياحة منذ زمن بعيد جدا، وقال "كان سكان المناطق المجاورة يحضرون إلى السودة في كل صيف، لجمال جوها ونقاء نسيمها، والسودة كانت ولا تزال تغطيها الأشجار، والأمطار على مدار العام ، فيها الكثير من الجبال التى تشقها شلالات المياه بشكل جميل ونادر" وأضاف "استهوت السودة الزوار بعد ظهور التلفزيون وظهور صورتها على شاشات الفضائيات، وزاد ذلك من عدد زوارها، فالأهالي يجنون من السياحة مكاسب عدة، والزائر للسودة في الصيف يستطيع الجلوس بين عائلته في الجبال والأودية والمدرجات.. أجواؤها معتدلة، ليست بالباردة وليست بالحارة، كما لا يمكن وصف اعتدال جوها". وأضاف ابن معدي قائلا "لم تكن السودة محبوبة في الماضي لشدة بردها وصقيعها، وكانت عبارة عن منازل معدودة على الأيدي، وكانت الأراضي بأسعار منخفضة جداً، فكان الكثيرون يعرضون بعض ممتلكاتهم بأقل سعر لهجرها، إلا أن السودة شهدت في الوقت الحالي تطورا لم يكن متوقعا، حيث أصبحت مقصدا للسياح". ممطرة طوال العام يصف الشيخ محمد بن معدي السودة بقوله: هي وردة في غصن شجرة لا تسقط على مدار العام ولا يتغير لونها، عاش فيها سكانها وتأقلموا مع جوها البارد، لأنها مرتفعة ارتفاعا شاهقا، مضيفا "الأجواء في السودة تمر بمرحلتين، باردة في الشتاء معتدلة في الصيف، وتتميز السودة بهطول الأمطار على مدار العام"، ويتذكر أنه قبل قرابة خمسين عاما "هطلت أمطار متواصلة على السودة على مدار شبه يومي لمدة عام، حتى ظن الناس أنه سيحل بهم بأس، وامتلأت الآبار عن بكرة أبيها والسيول كانت تشق الشعاب والأودية وشلالات المياه في كل مكان". المنتجعات السياحية يوجد في السودة فندق "إنتركونتيننتال" فئة 5 نجوم، أنشىء قبل قرابة 30 عاما على مساحة شاسعة، ويتميز بإطلالة رائعة على منطقة السودة ومدينة أبها شرقا ومنحدرات تهامة غربا، كما تم إنشاء فندق "أيام" قبل ثلاث سنوات في السودة، بالإضافة لعدد كبير جدا من الشقق المفروشة في كل قرى السودة. يقول رجل الأعمال محمد بن علي الثوابي "أصبحت السياحة في السودة مصدر رزق آخر، الجميع ينتظرون الإجازة الصيفية، لم يعد إيجار الفنادق والشقق هو الهدف الرئيس للسياح، أصحاب المنازل أيضا يستفيدون من إيجارها في الصيف وبمبالغ زهيدة، ولكنْ لها طابع جميل، البعض يعرض مقتنياتها المختلفة والتى تدر أرباحا عالية. السودة في الصيف مركز سياحي خلاب يجتمع فيه الجو اللطيف والتجارة". خدمات متعثرة ويرى الثوابي أن السودة أصبحت مقصدا سياحيا بارزا إلا "أنها لا تزال تقف على أعتاب انتظار خدماتها المتعثرة"، حيث يصف طريق السودة بالطريق السياحي الأطول على مستوى المملكة، ليس في المساحة فقط،" بل في وعود تحويله إلى مزدوج، ففي الصيف يغلق الطريق من شدة الازدحام"، وأضاف الثوابي أن هناك مخططا حكوميا للخدمات الحكومية إلا أنه لا يزال كما هو ولم يتم بناء موقع حكومي واحد فيه، مؤكدا أن "السودة " من الأجدر الاهتمام بها أسوة بباقي مدن ومحافظات المملكة. وبين الثوابي أنه رغم مكانة السودة السياحية وكثرة شققها وأعداد سكانها وزوارها، إلا أنها لا تزال تفتقر للخدمات الهاتفية.