متعب القرني في كتابه «أنا»، يقول عباس محمود العقاد (1889-1964) ما نصّه «لستُ أهوى القراءة لأكتب... وإنما أهوى القراءة لأن عندي حياة واحدة في هذه الدنيا، وحياة واحدة لا تكفيني ولا تحرك كل ما في ضميري من بواعث الحركة. والقراءة دون غيرها هي التي تعطيني أكثر من حياة واحدة في مدى عمر الإنسان الواحد، لأنها تزيد هذه الحياة من ناحية العمق وإن كانت لا تُطيلها بمقادير الحساب» (دار نهضة مصر، ط 3، 2005، ص 69). هذه المقولة من أشهر ما يتذرع به جماهير القراء في تبريرهم قراءاتهم، وجمعهم كتبهم، وحرصهم على عزلتهم، على أنها اليوم باتت في حكم الشاق مع الانفجار المعرفي الهائل. فلا يستطيع القارئ اليوم أن يحيط بجميع ما كُتب ويُكتب ليُضيف حيوات إلى حياته، بل قيل بأنه لو حَفِظَ مُجمل ما كُتب منذ فجر التاريخ حتى هذه الساعة، لما مرَّت ساعة حتى نُشر ما يوازيها من العلوم والمعارف والاكتشافات والحقائق الجديدة التي لم تُعرف الساعة الماضية، فكأنما يُلقي الله بذلك على عاتق القارئ الطموح صخرة سيزيفية من الجهل السرمدي المؤبد. من الواضح اليوم تسارع عجلة المعرفة بصورة تجعل عرقلتها بعصا أمرا محالا، وزاد بالنتيجة قلق الإنسان لاكتساب ما يمكن اكتسابه، فصار يعاني مما يسمى «الفومو» (FOMO) أو «قلق تفويت الأشياء» (Fear of Missing Out)، أي ما يجعل الإنسان قلقا بأن أمورا تحدث وتُنتج الآن وتفوت عليه ولا يستطيع اللحاق بها رغم حرصه وانتباهه. وهو ذات القلق الذي يجعل الإنسان في حيرة دائمة معلقا بأسئلة، يتابع كل شيء بهوس ويجمع ما يجمع من الكتب كي لا تفوته معلومة محتملة في تلك الموسوعة ذات الأجزاء السبعة، أو سيناريو أخّاذ في تلك الرواية البوليسية الساقطة من على الرفوف. كل ذلك كيما يعيش حياة أخرى بمنطوق العقاد الذي عقّد مدّعي الثقافة ودفعهم لإثارة مزيد من الشقاق في منصات التواصل لمن يستطيع قراءة سبعة كتب في أسبوع، فيتبارى الناس بجنون وتتعالى الأيدي والأصوات لاختطاف لقب «الدافور». «أنا» أيها العقاد «لا أستطيع السباق وسأنسحب تاركا المضمار بشرف». واجب المرء الصدع بهذه المقولة وإعلان الاستسلام مبكرا قبل إطلاق الصافرة، ورفع الراية البيضاء قبل أن تسحقه ساعاته النادرة. فسعي العقاد السريع كان بسبب رتابة حياة الأمس البطيئة، وينبغي أن يكون رتم اليوم السريع سببا في اختيار المسيرة البطيئة. فمن يعيش حياته ببطء نجا من متواليات الإحباط الناجمة عن الفشل في التحصيل، لا تخش أيها القارئ اليوم أمرا بقدر ما تخشى إهدار حياتك الواحدة بضغط القلق والإحباط ولمّا تتمكن من عيش حيواتك المزعومة. أفضل ما يمكن أن يقوم به قارئ العصر، هو أن يربط على قلبه وهو يركض في هذه السكة المخيفة، ويتعلم كيف يدخل معارض الكتب ويخرج منها بكتاب واحد فقط، كتاب واحد يتقصف بين يديه كتقصف الريال بأيدي طفل شغوف. أطل قراءة هذا الكتاب الواحد لأشهر بل سنوات، اجعله رفيقك في كل مطعم ومقهى، وصاحبه كما تصاحب زوجك واغشه كما تغشى قومك، فستمضي الأيام كما هي بقدر، ولن يبقى لك في عصر الزهايمر والباركنسون إلا من عشت معه أزمنة طوالا من الود والوصال.